domingo, 16 de octubre de 2011

رفع الإلتباس في قضية الحكم على الناس

      
     رفع الإلتباس
في قضية الحكم                        على الناس
                   

                                 جمع وإعداد :
                         أحمد عبد الله بن عبد السلام




بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله :
﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(الأنعام:55 )
فهو شأن عجيب ! . . إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة ! إن هذا المنهج لا يعني ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب . إنما يعني كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضآلين المجرمين أيضاً . . إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين . وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق !
إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله ـ سبحانه ـ ليتعامل مع النفوس البشرية . . ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الإعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر ; والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص ; وأن ذلك حق محض وخير خالص . . كما أن قوة الإندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ; ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحآده ويحاربه إنما هو على الباطل . . وأنه يسلك سبيل المجرمين ; الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدواً منهم ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ(الفرقان:31) . . ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين , أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون ; عن ثقة , وفي وضوح , وعن يقين .
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح . واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات . ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان متقابلتان , وطريقان مفترقتان . . ولا بد من وضوح الألوان والخطوط . .
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين .يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ; ووضع العنوان المميز للمؤمنين . والعنوان المميز للمجرمين , في عالم الواقع لا في عالم النظريات . فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون . بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم , وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم . بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان , ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين . .
وهذا التحديد كان قائماً , وهذا الوضوح كان كاملاً , يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية . فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم  ومن معه . وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين . . ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله ـ سبحانه ـ يفصّل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة ـ ومنها ذلك النموذج الأخير ـ لتستبين سبيل المجرمين !
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدلتها وأفسدتها التحريفات البشرية . . حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة , وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك . . لا يجدي معها التلبيس !
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا . . إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين , في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام , يسيطر عليها دين الله , وتحكم بشريعته . . ثم إذا هذه الأرض , وإذا هذه الأقوام , تهجر الإسلام حقيقةً , وتعلنه إسماً . وإذا هي تتنكّر لمقومات الإسلام إعتقاداً وواقعاً . وإن ظنت أنها تدين بالإسلام إعتقاداً ! فالإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله . . وشهادة أن لا إله إلاّ الله تتمثل في الإعتقاد بأن الله ـ وحده ـ هو خالق هذا الكون المتصرف فيه . وأن الله ـ وحده ـ هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله . وأن الله ـ وحده ـ هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله . . وأيّما فرد لم يشهد أن لا إله إلاّ الله ـ بهذا المدلول ـ فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد . كائناً ما كان إسمه ولقبه ونسبه . وأيّما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلاّ الله ـ بهذا المدلول ـ فهي أرض لم تدين بدين الله , ولم تدخل في الإسلام بعد . .
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين ; وهم من سلالات المسلمين . وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام . . ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلاّ الله ـ بذلك المدلول ـ ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول . .
وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام !
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلاّ الله , ومدلول الإسلام في جانب ; وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر . .
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم إستبانة طريق المسلمين الصالحين , وطريق المشركين المجرمين ; واختلاط الشارات والعناوين ; والتباس الأسماء والصفات ; والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق !
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة . فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً . حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! . . تهمة تكفير "المسلمين" !!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم , لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم !
هذه هي المشقة الكبرى . . وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل !
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . . ويجب ألاّ تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة . وألاّ تأخذهم فيها خشية ولا خوف ; وألاّ تقعدهم عنها لومة لائم , ولا صيحة صائح انظروا :  إنهم يكفرون المسلمين !
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون ! إن الإسلام بيّن والكفر بيّن . . الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله ـ بذلك المدلول ـ فمن لم يشهدها على هذا النحو ; ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو , فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين . . المجرمين . . ﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ  . .
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة ; وأن تتم في نفوسهم هذه الإستبانة ; كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة , ولا يعوقها غبش , ولا يميعها لبس . فإن طاقاتهم لا تنطلق إلاّ إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون" وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم "المجرمون" . . كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلاّ إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان . وأنهم وقومهم على مفرق الطريق , وأنهم على ملة وقومهم على ملة . وأنهم في دين وقومهم في دين: ﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(الأنعام:55) .. أ هـ

( من تفسير في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب رحمه الله ج 6 ص126 ـ 128 )

                          بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده . والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
أخبر الله عز وجل أنه ورسوله صلى آله عليه وسلم برؤوا من المشركين :
قال تعالى :
﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (التوبة:3 )
كما حثنا الله عز وجل وأمرنا بالتأسي والإقتداء بأبينا إبراهيم ومن معه من المرسلين عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم : قال تعالى : ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (الممتحنة:4 )
 فإذا علمنا أن الله عز وجل قد كلفنا إعلان البراءة من المشركين أفراداً ومجتمعات . تطبيقاً لقاعدة تكفير من لم يكفر الكافر الثابتة  بمقتضى أصل الدين . وبمقتضى نصوص الولاء والبراء وإجماع أهل الإسلام .
إذا علمنا ذلك برزت علينا قضية الحكم على الناس في هذه الديار وإن كان ثمة شئ نقوله بين يديّ هذه الرسالة فهو قولنا أن مسألة الحكم على أعيان هذه الدار لا تُناقش إبتداء .
 بل هي ثمرة الفصل في مسائل أصل الدين وعبادة الله عز وجل وحده ، مروراً بقضية العذر بالجهل وانتهاءاً بقاعدة من لم يكفر الكافر ، ولذا يتعين علينا مناقشة هذه المسائل والفصل فيها أولاً .
حيث أن الحوار في قضية الحكم على الناس مع المخالف في قضايا البراءة من المشركين ـ هو حوار غير ذي جدوى وثمرته غير توفيقية ، لأن الطرف الموحّد ـ بما عنده من أصول يريد إنزال الأحكام في واقع أناس كفار إلاّ من أظهر إنتسابه لأهل التوحيد .
في حين أن الطرق المخالف ـ بما عنده من أصول فاسدة ـ يريد إنزال الأحكام على واقع إسلامي حيث أن فاعل الشرك الأكبر مسلم وكذا المجادل عنه من أصحاب " العذر بالجهل" ومن جادل عنهم .
وبالتالي فهو يتصور أن الجماعات المنتسبة للإسلام مثل ما يسمى ـ بالسلفية والإخوان والدعوة والتبيلغ والجماعات الجهادية [1]ـ كلها جماعات مسلمة ولذلك فهو يتصور أن الواقع في هذه الديار واقع إسلامي .
 وبالتالي فالحوار في قضية الحكم على الناس مع أصحاب هذا التصور هو حوار غير ذي جدوى ونتيجته محسومة بالخلاف إبتداء لإختلاف المناط عند كل طرف وهو يشبه الحوار بين شخصين يبحثان عن الحكم الشرعي في حِل أو حرمة كوب عصير إلاّ أن أحدهم يتصور أن الكوب ملئ بالخمر في حين يتصور الآخر أن الكوب ملئ بعصير العنب . فمن البديهي الحكم على نتيجة هذا الحوار إبتداءً بالإختلاف .
أما وقد تم الإتفاق في هذه المسائل المتقدمة فإنه يتسنى لنا تناول قضية الحكم على الناس وذلك من وجهين إثنين :
تناول العامي /  تناول الأصولي
الوجه الأول :  تناول العامي الموحد لقضية الحكم على الناس .
والمقصود من هذا الوجه هو سد الثغرة التي يقول أصحابها أن عرضكم للقضية بناء على قواعد أصول الفقه يعني أن المسألة فقهية تعلم بالشرع يسع فيها الجهل والتأويل ويلزمكم تعليم أصول الفقه للعجائز والأعاجم حتى يتسنى لهم فهم وتطبيق قضية الحكم على الناس .
وللرد على هذه الدعوى نقول :
·      أنه يفترض في العامي الموحد الذي لا دراية  له بأصول الفقه أن يكون عالماً علماً يقينياً أن لا معبود إلاّ الله وأن من عبد معه غيره أنه مشرك وكذا من جادل عن هذا المشرك أو جادل عن هذا المجادل .
·       كما يفترض في هذا العامي أن يكون عالماً بأن الله عز وجل قد افترض عليه البراءة من كل كافر فرداً كان أو جماعة أو مجتمع .
لقوله تعالى : ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (المجادلة:22 )
وقوله عزمن قائل :
﴿  إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ (الممتحنة:4 )
وغيرها من نصوص الولاء والبراء وإن كان الأمر الإلهي بتكفير المشركين معلوم بداهة من خلال أصل الدين حيث أن كل من وحّد الله عز وجل ودخل في الإسلام يستطيع بكل بداهة ويقين أن يثبت لنفسه الإسلام وينفي عنها الكفر الذي أثبته لها قبل معرفة التوحيد . ومن ثم يطبق ذات التصور على أهله وقومه بإثبات الكفر لهم ونفي الإسلام عنهم .

إذن فالعامي لا يكون موحداً إلاّ إذا " علم وتيقن " بما سبق . وإذا علم ذلك فقد علم الحكم الشرعي ولم يبق له إلاّ تحديد الواقع وتقييمه تقييماً صحيحاً وذلك يتم إمّا عن طريق المباشرة ـ مباشرة حال القوم ـ وإمّا عن طريق السؤال . ومعرفة الواقع لا تحتاج إلى أدوات إجتهاد ولا إلى بلوغ درجة الراسخين في العلم .
وفي هذا يقول الإمام الشاطبي رحمه الله :                            كل دليل شرعي مبني على مقدمتين :
 إحدهما : راجعة إلى تحقيق مناط الحكم .
 والأخرى :  ترجع إلى نفس الحكم الشرعي فالأولى نظرية وأعنى بالنظرية هنا ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر. أهـ  (الموافقات ج 3 ص 43 )
ثم يقول : فالحاصل أنه لابد منه لكل ناظر وحاكم ومفتي بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه .
فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهواً من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة وإن كانت كثيرة فلا . فوقعت في صلاته زيادة فلا بدله من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين ولا يكون ذلك إلاّ بإجتهاد ونظر فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجره عليه وكذلك سائر تكليفاته . أهـ
ويقول أيضاً : أما النظر في مناط الحكم لا يلزم منه أن يكون ثابتاً بدليل شرعي فقط ، بل يثبت  بدليل شرعي أو بغير دليل . فلا يشترط فيه بلوغ درجة الإجتهاد " بل لا يشترط فيه العلم " فضلاً عن درجة الإجتهاد . أهـ
        ( من كتاب الإعتصام للشاطبي ج 2 ص 161 )

نرجع لنقول أن على العامي الموحد الإتيان بمقدمة نظرية ( مراعاة الواقع ) تلتحم مع مقدمة أخرى ثابتة بمقتضى أصل الدين " البراء من المشركين " فتثمران حكماً شرعياً صحيحاً . ومعرفة الواقع تسمى بالمقدم العقلية (حكماً شرعياً ومباشرة واقعها[2] ) .
مناط الحكم : " الواقع الليبي "
إذا ثبت الحكم الشرعي لدى العامي الموحد لم يبقى الاّ تقييم الواقع .
1 ـ ركن الحاكمية :
أ ـ لا شك أن نظام الحكم في ليبيا يقوم في الأساس على غير شريعة الله ولا يستمد قوانينه ونظامه وشرائعه من الكتاب والسنة بل هو حكم طاغوتي يقوم على حكم الشعب بالشعب للشعب في المؤتمرات شعبية تقرر القرارات وتسن قوانين ولجان شعبية تنفذ .
ب ـ عضوية الدولة الليبية في هيئة الأمم المتحدة واعترافها بالشرعية الدولية وفض خصوماتها عن طريق القوانين والمحاكم الدولية .
جـ ـ محاكم منصوبة في كل مدينة وكل قرية تفتح أبوابها لأسراب الناس الوافدين إليها لفض نزاعاتهم وإنهاء خصوماتهم الجنائية والمدنية والإدارية والأحوال الشخصية كل ذلك بحكم الياسق الذى شرعه المؤتمر الشعبي العام مقتبساً إياه من قوانين فرنسية و إيطالية وبعض ما وافق هواهم من الشريعة الغراء وأخر من زبالة أفكارهم وحثالة أذهانهم وكل ذلك قابل للتعديل والإلغاء حسب ما تقرره السلطة التشريعة في البلاد وهي المؤتمرات الشعبية .
د ـ لجان فض المنازعات بالحل العرفي حيت تلجئ كل العائلات والقبائل في ليبيا دون إستثناء إلى هذه اللجان لفض الخصومات وخاصةً الجنائية منها عن طريق مشايخ القبائل بحكم سواليف البادية  " القانون العرفي " .
هـ ـ فتح كليات القانون التي أسست لأجل تخريح كوادر متخصصة في الياسق والحكم بغير ما أنزل الله والنظرة العامة لهذه الكليات ولهؤلاء الخرِّجين نظرة إجلال وإكبار ومكانة إجتماعية جيدة .
و ـ إصدار الدولة لتراخيص تجيز وتبيح من خلالها كثير من المحرمات ومنها على سبيل المثال ، تعاطى الربا في المصارف وسن القوانين عمل هذه المصارف وبالمقابل إصدار الدولة لقوانين ولوائح تمنع من خلالها كثير من الواجبات الشرعية مثل إرتداء الحجاب وإعفا اللحى .
2 ـ ركن الشعائر والنسك :   
أ ـ الأضرحة والقبور المنتشرة في كل بلدة وقرية وريف والتي تُعبد من دون الله بشتى أنواع العبادة كما هو معلوم .
ب ـ تعاطي السحر والكهانة وادعاء علم الغيب وهذا لا يخفى إنتشاره على أحد .
ج ـ تعظيم الطواغيت ورموزهم وأعلامهم بالصلاة لها على ترتيل الأوردة الكفرية والأنغام الموسيقية .
د ـ تفشي سب الله عز وجل وسب دينه القويم والإستهزاء بآياته ورسوله الكريم وسنته وبالعلماء والمتدينين والتدين جملة .
3 ـ ركن الولاية :
أ ـ القوات المسلحة بشتى أشكالها القائمة أصلاً على ولاية الطاغوت وحماية عرشه والمحافظة على سير النظام وتطبيق القانون وملاحقة ومعاقبة الخارجين عن القانون .
ب ـ أصحاب المذاهب الإشتراكية والقومية والوطنية والعلمانية .....إلخ .
ج ـ أصحاب الطرق الصوفية وأصحاب عقيدة العذر بالجهل ومن جادل عنهم وهؤلاء حريصون على أداء شعائر الإسلام واقتفاء السنة وتجد من بعضهم إظهار العدواة للحكام ولكنهم يحصرون الولاء والبراء في الحكام فقط دون غيرهم من المشركين .
د ـ رجال الإعلام المرئي والمسموع والصحافة والمسارح وغيرها حتى خطباء المساجد والذين يشكلون منابر للثقافة الثورية العقائدية التعبدية ويحملون على عاتقهم عبأ التعبئة الجماهيرية بما يخدم مصالح الطاغوت ويحافظ على كيانه .
هـ ـ اللجان الثورية وملاحقاتها المتواجدة في كل بلدة وكل مصنع وكل جامعة وليس لها إختصاصات محدودة بل هي تختص بكل مامن شأنه حماية عرش الطاغوت فيمتد عملها من التحقيق إلى تعليق الناس على أعواد المشانق مروراً بالتحريض على ممارسة السلطة وحماية الثورة والدعاية لها وملاحقة أعدائها في الداخل والخارج ....إلخ .
 و ـ فتح مؤسسات تعليمية تعمل على تخريج أجيال تعتنق فكر سلطة الشعب فالمدارس تسمى جماهريات مصغرة والفصول تسمى مؤتمرات شعبية ومادة الفقه الثوري والسياسي تدرس في جميع مراحل التعليم بالإضافة إلى مادة التربية العسكرية ودس السم في مادة التاريخ والمطالعة وحتى التربية الإسلامية لم تسلم هي الأخرى فنجد دروساً في تعميق جذور القومية والوطنية والديمقراطية .... هذا فضلاً عن ممارسة الشعائر الكفرية بالوقوف للعلم والأناشيد والهتافات الثورية ، وحضور المحاظرات العقائدية ضف إلى ذلك الزج بهذه الأجيال في كليات القانون والإعلام والشرطة والقوات المسلحة والفنون والموسيقى والسياحة والعلوم السياسية والفلسفة أو إعادة تأهيلهم كمعلمين ليمارسوا نفس الدور الذى مارسه أساتذتهم في تخريج أجيال أخرى على نفس المنوال والنمط .
ملاحظة هامة :
وقبل أن نختم تقييم الواقع يبقى أن نقول أن العامي الموحد الذي منّ الله بمعرفة دين الإسلام يعلم أن أفراد المجتمع يتلفظون بشهادة التوحيد ويقيمون شعائر الإسلام الظاهرة من الصلاة والأذان ...كما يعلم أنه قبل معرفة التوحيد لم يكن هو ذاته مسلماً رغم تلفظه بالشهادتين ورغم أدائه لكثير من شعائر الإسلام الظاهرة . ويعلم أيضاً أن الإسلام الذي دُعيَ إليه فأجاب الدعوة هذا الإسلام غير محقق في الواقع لا في أهل بيته ولا سمع به عند جيرانه ولا في مدرسته ولا في الإذاعة ولا في المسجد ولا حتى عند المتدينين من المنتسبين للجماعات العاملة في الساحة ، حتى أن هذا العامي عندما أقر بالإسلام قال مقالة ذلك الأعرابي الذي قص حكايته شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب حيت قال : " وما أحسن ماقال واحد من البوادي لما قدم علينا وسمع شيئاً من الإسلام قال : أشهد أننا كفار ، يعني هو وجميع البوادي وأشهد أن المطوع الذي يسمينا أهل إسلام إنه كافر " أهـ ( من كتاب مجموعه التوحيد ص 28 )  
فالتلفظ بكلمة التوحيد يعد من دين القوم أصلاً  رغم كفرياتهم فحالهم يشبه إلى حد كبير دار مسيلمة في النبوة أوجحود الواجبات الشرعية .... إلخ .
إذن وبعد وقوف العامي الموحد على واقع القوم . كيف يمكن له إنزال عقيدة الولاء والحكم بإسلام الموحدين . وعقيدة البراء وتكفير المشركين .
الجواب : هذا العامي الموحد ليست له دراية باللغة العربية فضلاً عن العلوم الشرعية وأصول الفقه ولكنه يجزم بأنه كل من تبرأ من هذه المكفرات كلها وانتسب إلى عقيدة هذا العامي فإنه حينئذ يجزم بإثبات الإسلام له ونفي الكفر عنه .
أمّا غيره ممن لم يُظهر الإنتساب إلى عقيدة هذا العامي وإنما اقتصر على إظهار التلفظ بكلمة التوحيد أو أداء الصلاة فلا يحكم بإسلامه .
لأن هذا العامي يعرف أن الإسلام ليس مجرد كلمة تقال باللسان ولا هو إقامة شعيرة معينة وإن كانت هذه الألفاظ والشعائر تعد علامات وأمارات على وجود الإسلام لشخص ولكنها ليست هي ذاتها الإسلام وهي في مثل هذا الواقع تعد علامات وقرائن غير معتبرة شرعاً للدلالة على إسلام صاحبها . كما سيأتي .
فالعامي الموحد يعلم يقيناً أن صفة الإسلام لا تُعطى الاّ لمن تبرأ من كل المكفرات الواقعة في هذا المجتمع . أما اللفظ واللغة التي يعبّر بها عن قبول الإسلام ورفض ماسواه فليس ذا أهمية كبرى .
أمر آخر ولكنه ذو أهمية وهو أن العامي يعلم يقيناً أن إعطاء صفة الإسلام لمن تكلم بكلمة التوحيد في هذا الواقع يعني ولابد إعطاء صفة الإسلام لكل الأعيان في هذا المجتمع لأن حكم المعين سينسحب بالتالي على كل الأعيان لأن الجميع يتلفظون بكلمة التوحيد . وإعطاء صفة الإسلام لأعيان هذا المجتمع المعلوم حاله المعلوم وما هو عليه من كفر يعدُ نقضاً صريحاً للإسلام وفقاً لتطبيق عقيدة الولاء والبراء وقاعدة تكفير من لم يكفر الكافر " من ليس على اعتقادي ليس في ديني " .
شبهة : قد يقول قائل : ماهو الظاهر الذي أعتمده هذا العامي في تكفير زيد الذي تلفظ بكلمة التوحيد وشعائر الإسلام ولم يبدر منه ناقض من نواقض الإسلام ؟ .
الجواب : أن هذا العامي يدرك أن الإسلام هو دين جميع المرسلين وهو عقيدة الكفر بالطاغوت والإيمان بالله قال تعالى:﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ(النحل:36) وليس الإسلام مجرد قرقعة . بحروف كلمة{ التوحيد أمّا أشتراك عامة المشركين في هذه الدار مع القلة القليلة من الموحدين في التلفظ بكلمة التوحيد وأداء الشعائر .
ـ هذا الإشتراك ـ  يجعل من هذه الألفاظ والقرائن لا تعمل عملها كعلامات وأمارات وضعها الشارع للتمييز بين المشركين والموحدين فهي ليست الإسلام وإنما هي مجرد علامات بكلمة التوحيد وأداء الشعائر لا يحقق مقصود الشارع من تشريع هذه الأمارات .
وهذا أمر يعلمه العامي الموحد من خلال حياته اليومية فهو يُحسن أن يدرك أن السمات والأمارت التي توضع على الإبل والغنم يراد منها التمييز بين هذا القطيع وذاك كما يُحسن أن يدرك أن قطيع زيد وقطيع عمر إذا اشتركا في سمة وأماراة واحدة فإن هذا الإشتراك يتعذر معه التمييز والتفريق بين القطيعين
وبالتالي لابد من وضع قرينة وعلامة جديدة تصلح للتمييز .
نعود للجواب عن الشبهة فنقول : أن هذا العامي الموحد حكم على زيد بالكفر لأن زيد لم يظهر منه إسلام ولا بانت منه أمارة معتبرة تدل عليه فمجرد تلفظ زيد بكلمة التوحيد لا يدل على إسلامه لأن زيد ينتسب إلى قوم كافرين وكفرهم ليس من جهة عدم التلفظ بكلمة التوحيد ولا من جهة جحود الصلاة والفرائض . قال تعالى عن ملكة سبأ : ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ(النمل:43) . وقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام :  ﴿ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(يوسف:37)
فحال القوم الذين ينتسب إليهم زيد يشبه قوم يقرون بالتوحيد وينكرون الرسالة أو يقرون بالتوحيد ويقرون بالرسالة ولكنهم يخصون بها العرب وبمعنى أخر فإن الظاهر المعتمد والقرينة المعتبرة عند هذا العامي لأجل الحكم بالإسلام في مثل هذه الديار هي كل كلمة يتلفظ بها المرء معبراً عن مفارقة مذاهب القوم واعتقاداتهم مع إستثناء كل قول أو فعل مشترك لا يدل على هذه المفارقة .  
والشيء الأهم الذي نجيب به عن هذه الشبهة أن هذا العامي لا يحسن الخوض في الشريعة ولا يعرف مصطلحات النص والدلالة والتبعية ولكنه يحسن أن يدرك أن الشريعة لا تعارض فيها ولا تناقض وبالتالي يحسن أن يدرك أن حكمه بإسلام زيد بمجرد التلفظ بكلمة التوحيد سوف ينسحب على بقية الأعيان لأنهم يتلفظون بكلمة التوحيد وهذا يرجع على أصله في البراءة من المشركين بالهدم والنقض وبالتالي فهو لا يجرأ على الحكم بإسلام زيد ولا يتسامح فيه ولا يجد سعة لغيره ممن يدعىّ التوحيد في أن يحكم بإسلام زيد بمجرد التلفظ بكلمة التوحيد لأن ذلك يمثل حكماً قطعياً بإسلام ملايين من أهل هذه الدار .
فلو قال قائل : أيها العامي تمهل قليلاً هناك شئ إسمه الإسلام الحكمي وضوابط إسمها النص والدلالة والتبعية ..إلخ
فيرد العامي :  كلامك هذا أنا أسلّم أن الشريعة جآءت به والعلماء الأفاضل قالوا به ولكنى أسلّم أيضاً أن الشريعة لا تناقض فيها ولا إختلاف .
قال تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ(آل عمران:7)
والمحكم الثابث البّين هو أن الله أمرني بالبراءة من كل مشرك عيناً كان أوطائفة وكلامك هذا أنا لا أعرفه ولكن لا يمكن أن أفهمه فهماً يتعارض مع أصل الدين لأنني أؤمن أن خرق هذا الأصل يعني الكفر لإستلزامه أعطاء صفة الإسلام لملايين المشركين في هذه الديار .
ونختم الكلام عن العامي الموحد بهذه النكتة المهمة :
والتي ينبغي أن تكون قاعدة وأساس يُعضُ عليه بالنواجد وهو أن العامي الموحد مكلف بأصل الدين ومن ضمنه البراءة من المشركين وممن جادل عنهم
ولا يجوز له الشك والتوقف ولا التأول في هذا الأصل . وإذا أراد العامي الخوض في الشريعة وفتاوى السلف وتقسيماتهم فلا بأس
شريطة ألاّ يعتقد ما يرجع على أصل الدين بالهدم والنقض لأنه حينئذٍ غير معذور .
ومثال ذلك من يخوض في حديث ذات أنواط ويخلص إلى إعذار المشركين بالجهل أو يخوض في التشابه من سورة يوسف ويخلص إلى تجويز التحاكم للطاغوت عند الضرورة أو يخوض في مسائل الإكراه ويخلص إلى تجويز الكفر عند التهديد بالصفع فهؤلاء جميعاً غير معذورين بتأويلاتهم لأننا وكما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : لو فتحنا باب التأويل لما كفر أحد .
ولو بقى هؤلاء على حالهم كعوام ولم يخوضوا في الشريعة لكان خيراً لهم .
والمقصود : أن الخوض في الشريعة له ضوابطه وشروطه والتي من أهمها المحافظة على أصل الدين وإلاّ فمن خاض في الشريعة وخَلُصَ إلى هدم أصل الدين فلا يلومن إلاّ نفسه . والتوفيق بيد الله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

الوجه الثاني : تناول الأصولي[3] لقضية الحكم على الناس .
تناول الأصولي لقضية الحكم الناس لايختلف في حقيقته عن  تناول العامي الموحد للقضية ، وهذا يشبه اتفاقهما في تحقيق شروط لا إله إلاّ الله وإن كان العامي لا يحسن أن يعددها أو يرتبها كما يفعل الأصولي والمتعلم ، فتناول
الأصولي لقضية الحكم على الناس يكون وفقاً للأصول الأتية :
1 ـ ضرورة مراعاة الواقع عند إنزال الأحكام :
وهذا الأصل في الحقيقة هو جواب عن شبهة المشككين القائلين : إن الله تعبدنا بالنصوص ولم يتعبدنا بالواقع .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : لا يمكن للمفتي ولا للحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلاّ بنوعين من الفهم :
1 ـ فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً .
2 ـ فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في الواقع ، ثم يطبق أحداهما على الآخر . أهـ
( من كتاب إعلام الموقعين ج 1 ص 73 ) 
ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله :                         
  كل دليل شرعي مبني على مقدمتين :
 إحدهما : راجعة إلى تحقيق مناط الحكم .
 والأخرى :  ترجع إلى نفس الحكم الشرعي . أهـ
( المسألة السادسة من كتاب الموافقات ج3 ص 43 )


ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في جوابه عندما سئل عن التتار :
الجواب مبني على أصلين :
الأصل الأول ـ مباشرة حال القوم ومعرفة واقعهم .
الأصل الثاني ـ معرفة الحكم الشرعي واجب التطبيق .أ هـ
( مجموعة الفتاوى ج 4 ص 384 )
ويقول الإمام الشاطبي تكملة لكلامه السابق في مراعاة الواقع :
فالحاصل أنه لابد منه لكل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهواً من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة وإن كانت كثيرة فلا ، فوقعت في صلاته زيادة فلا بد له من النظر فيها حتى يردها لأحد القسمين ولا يكون ذلك إلاّ بإجتهاد ونظر فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه وكذلك سائر تكليفاته . أ هـ (المقدمة الأصولية فصل المناط والحكم ).
ويقول أيضاً في الإعتصام : ومن سمات أهل البدع تحريف الأدلة عن مواضعها بأن يرد الدليل إلى مناط فيصرفه عن ذلك المناط إلى أمر أخر موهماً أن المناطين واحد وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه . أ هـ
( من كتاب الإعتصام ج 1 ص 187 )
والشاهد من هذا الأصل على مسألتنا هو تقييم الواقع تقييماً صحيحاً وعدم تجاهله ومن ثم تحديد القرينة التي تناسب هذا الواقع فيعتمد عليها في إعطاء صفة الإسلام .
وأيضاً فإن فهم هذا الأصل يُعين على كشف شبهات المشككين والرد عليها ، فإذا تشبثوا بإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد رضي الله عنه عند ما قتل الرجل الذي قال : لا إله إلاّ الله ، وإنكاره صلى الله عليه وسلم على الصحابة الذين قتلوا الراعي بعد ما ألقى عليهم السلام .
وكذلك إنكاره على خالد بن الوليد رضي الله عنه لقتله الذين قالوا كلمة   " صبئنا " معبرين بها عن مفارقة دين قومهم وقبول الإسلام ، فهذه الوقائع كلها صحيحة ولكن الخلل في صرفها إلى غير مناطها !!
فانظر أخي القارئ إلى هذه الكلمات الثلاث ( لا إله الاّ الله ، السلام عليكم ، صبئنا ) لم يكن أصحابها يقولونها قبل ذلك ، وبمعنى آخر أنها كلمات لم تكن من دين القوم أصلاً ، فالعرب لم تكن كلمة " لا إله الاّ الله " من دينهم ، وكانت تحيتهم قبل الإسلام " عمت مساءاً " ولم تكن " السلام عليكم " تحية لهم قبل الإسلام ، قال ابن حجر رحمه الله : ولأن السلام تحية الإسلام وكانت تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك [4]. أهـ
 ، وكذلك كلمة " صبئنا " تعني تركنا ديننا إلى غيره ، والمقصود أن أصحاب هذه الكلمات المختلفة كانوا يعبرون بها عمّا في أنفسهم من قبول داعي الإسلام وترك ما عداه وبالتالي فهم يعبّرون عن الإجابة للإيمان بلا إله الاّ لله والبراءة من كل معتقد يضادها والذي يؤكد هذا المعنى أن الكلمات الثلاث لم تكن من دين القوم أصلاً ولو كانت من دينهم لصح فعل الصحابة ولما أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا المعنى يقول القاضي عياض رحمه الله تحت حديث ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله تعبيراً عن الإجابة للإيمان وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان أما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقول لا إله إلاّ الله إذا كان يقولها في كفره . أهـ
( من كتاب فتح المجيد ص 112 )
ويقول الشيخ أبو سليمان الخطابي رحمه الله تحت نفس الحديث :
معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلاّ الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف . أهـ
( فتح المجيد ص 112 )
ويقول الإمام البغوي رحمه الله مؤكداً نفس المعنى : الكافر إذا كان وثنياً أو ثنوياً لا يقر بالوحدانية فإذا قال لاإله إلاّ الله حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف الإسلام ، وأما من كان مقراً بالواحدنية منكراً للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول الله فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية للعرب خاصة فلابد أن يقول إلى جميع الخلق ، فإن كان كفر بجحود واجب أو إستباحة محرم فيحتاج إلى أن يرجع عما اعتقده  . أ هـ (  فتح الباري ج 12 ص 326 نقلاً عن نيل الأوطار ج7 ص 198 )
ويقول نعيم ياسين : من كان على ملة لا تكـفي الشهادتان في مبدأ من مبادئها أو أكثر ولابد في حقه من أن يتبرأ من ذلك المبدأ بالإضافة إلى الشهادتين فلو أن شخصاً كان يعتقد بالتوحيد وبأن محمداً رسول الله ولكن إلى قوم معينين أو زمن معين فإن نطقه بالشهادتين لا يكون كافياً لإعتباره مسلماً لأن إعترافه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا ينفي ما كان مشهوراً من اعتقاده بإختصاصها بقوم أو بزمن فلا بد مع هذا من أن يقر بأن محمداً رسول الله إلى الناس أجمعين .
وقد ذكر العلماء في هذا الموضع قاعدة عامة مفادها : أنه لا يحكم بإسلام الشخص إلاّ إذا أقر بالشهادتين وكان هذا الإقرار كافياً في نقض جميع معتقداته الباطلة التي أشتهربها ، فإن لم يكن كذلك كان لابد من النطق بها والتبرئ من المعتقدات الباطلة التي لم يندرج نقضها تحت الشهادتين . أهـ
 ( من كتاب الإيمان ص 97 طبعة مكتبة الزهراء )
والذي يؤكد هذا المعنى الذي ذكره هؤلاء العلماء أن الصحابة لم يكونوا يعتبرون التلفظ بكلمة التوحيد ولا الأذان ولا قول السلام عليكم ، لم يكونوا يعتبرون هذه الأمارات والقرائن للحكم بالإسلام سواءً للدار أو للأعيان عندما  قاتلوا دار مسيلمة الكذاب وغيرهم ممن كانت ردتهم ليست بسبب جحود الإقرار بلا إله إلاّ الله أو الأذان إنما كان كفرهم بسبب إشراك مسيلمة الكذاب في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً حتى على الذين منعوا الزكاة تأويلاً  لاجحوداً ، وكذلك عندما قاتلوا اليهود في خيبر والنصارى في اليمن .
يقول صاحب فتح المجيد تحت حديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وقوله : إنك تأتي قوّماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لاإله إلاّ الله ... الحديث ، يقول صاحب فتح المجيد : وكانوا يقولونها ـ أهل اليمن ـ لكنهم جهلوا معناها الذي دلت عليه فكان قولهم لا إله إلاّ الله ، لا ينفعهم لجهلهم بمعني هذه الكلمة كحال أكثر المتأخرين من هذه الأمة . أ هـ
( هامش فتح المجيد ص 82 ) .
كذلك الحال عندما قاتل المسلمون التتار لم يكونوا يعتبرون تلفظهم بكلمة التوحيد ولا إقامة شعائر الإسلام لأجل الحكم بإسلامهم أو التوقف والتبين من كل فرد على حدة هذا لم يفعله الصحابة ولا أئمة الإسلام بعدهم لأن التحقيق في مواقف الأفراد فراداً فرداً فيه توقيف لأحكام الشريعة وجريانها على مستحيلات وفي ذلك تعطيلاً لها بالإضافة إلى أنهم ومن خلال مباشرتهم لواقع القوم عرفوا أن هذه الأمور ( كلمة التوحيد ـ الأذان ـ تحية الإسلام ...إلخ ) من دين القوم أصلاً ولم يكن كفرهم من جهتها وبالتالي وإعمالاً لهذا الأصل ( مراعاة الواقع عند الحكم ) .
نخلص إلى أن صرف حديث إنكار النبي صلى الله عليه وسلم  على أسامة وخالد والصحابة رضي الله عنهم صرف هذه الأحاديث إلى واقع أُناس في ليبيا ثبت كونهم يتلفظون بكلمة التوحيد ويؤدون الشعائر حال كفرهم بمعنى أن كفرهم ليس من جهة الإمتناع عن هذه الأمور ، إن صرف النصوص إلى هذا المناط يعد من قبيل تحريف الكلم عن مواضعه لأنه وضع لكلام المعصوم في غير محله هذا فضلاً عن كونه من قبيل جعل القرآن عضين يضرب بعضه بعضاً فمن جهة يأمر بالبراءة من هؤلاء المشركين ومن جهة أخرى ( وفقاً لهذا المسلك ) يحكم بإسلامهم فيضرب النصوص بعضها ببعض ويناقض العقل والواقع .
الأصل الثاني :
مرعاة مقصد الشارع من تشريع أمارات وسمات الحكم بالإسلام :
من المعلوم أن من أهم الطرق الصحيحة للإستدلال :
مراعات الصيغ من النظر في المقاصد وتتبع المعاني للأدلة الشرعية .
يقول الشاطبي رحمه الله :
إذا كان تأويل النصوص من علامات أهل الأهواء والبدع فمن علاماتهم أيضاً في الطرف المقابل الأخذ بظواهر القرآن من غير تدبر لمعانيه ولا نظر في مقاصده ففي الحديث من صفة الخوارج : ( يقراءون القرآن لايجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ) فبيّن من صفاتهم في معاندة الشريعة إتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده ، والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن أتباع الحق المحض ويضاد المشي على الصراط المستقيم . أهـ
( الموافقات ج 4 ص 117 ) .
ويقول أيضاً بعد الكلام عن أسباب اختلاف المبتدعة وتفريقهم عن الصراط المستقيم :
وهذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد وهو الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير ثتبيت والأخد منها بالنظر الأول ولا يكون ذلك من راسخ في العلم الاّ ترى أن الخوارج كيف خرجوا من الدين كما يخرج السهم من الرمية لأن الرسول وصفهم بأنهم يقراؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم . يعني والله أعلم أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم لأن الفهم راجع إلى القلب فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه الفهم على حال وأنما يقف عند محل الأصوات والحروف فقط وهو الذي يشترك فيه من يفهم مع من لايفهم . أهـ
( الإعتصام ج 2 )
ويقول أيضاً بعدما ذكر مناظرة ابن عباس رضي الله عنهما للخوارج : وفي الحقيقة فإنما من سلك موقف الوقوف مع الظاهر، ظاهر اللفظ من غير نظر في المقاصد ولا تدبر في المعاني فلابد أن يتناقض في مسلكه هذا نفسه . أهـ
 ( الموافقات ) .
ويقول في إجابته عن سؤال : بما يعرف ما هو مقصود الشارع ممن ليس بمقصود له ؟ ....
الجواب : أن النظر ها هنا ينقسم بحسب التقسيم العقلي إلى ثلاثة أقسام :
الأول : رأي الظاهرية الذين يحصرون نطاق العلم بمقاصد الشارع في الظواهر
الثاني : دعاوي أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولايفهم منها وإنما المقصود أمر أخر وراءه ويطرد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظواهرها متمسك يمكن أن يلتمس فيه معرفة مقاصد الشارع وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة وهم الباطنية .. كما ذكر هنا رأي المتعمقين في القياس .
الثالث : أن يقال بإعتبار الأمرين جميعاً ( الظاهر والمعنى ) على نظام واحد لا خلاف فيه ولا تناقض وهذا الذي أَمّه أكثر العلماء الراسخين فعليه الإعتقاد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع . أ هـ  ( بإختصار غير مخل نقلاً عن المقدمة الأصولية ويراجع أيضاً أعلام الموقعين ج 1 ـ 2 )
والشاهد من هذا الأصل على مسألتنا هو إجابة السؤال التالي :
 ما هو مقصود الشارع من الأمر بالحكم بإسلام من قال لاإله إلاّ الله ـ والسلام عليكم ... إلخ ؟ هل هذه الألفاظ هي ذات الإسلام ؟ أم أنها مجرد علامات عليه ؟
والجواب نقول : من المعلوم أن الإسلام هو دين جميع المرسلين وهو عقيدة
الكفر بالطاغوت والإيمان بالله تصديقاً قلبياً جازماً ونطقاً باللسان وعملاً بالأركان ، وإنما جعل الشارع علامات وسمات وأمارات تدل على تدين صاحبها بدين الإسلام وتميز أهل الإسلام عن غيرهم حتى يتسنى لهم موالاة بعضهم البعض والبراءة من كل مخالف .
يقول الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله تحت حديث ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لاإله إلاّ الله .. ) ويحتمل أن يكون المراد بقوله لاإله إلاّالله هنا التلفظ بالشهادتين لكونها صارتا علماً على ذلك . أهـ
( فتح الباري ج 12 ص 326 )
ومن هنا نقول أن هذه الألفاظ مثلاً : لفظ ( ميتراس[5] ) وبلغة أخرى غير لغة العرب كما يمكن الإستعاضة عنها بالإشارة في حالة العجز عن الكلام .
وإذا كانت عصمة المال والدم والحكم بالإسلام مخصوصة بمن أتى بهذه القرائن معبراً بها عن الإجابة للإيمان صار من الممتنع عقلاً وشرعاً وواقعاً أن يعتبر تلفظ المعين أوالطائفة بكلمة التوحيد وغيرها من القرائن ، أن يعتبر ذلك تعبيراً عن الإجابة للإيمان إذا كان يقولها في كفره أو كانت تلك القرائن من دينه أصلاً ، بمعنى أن كفرهم لم يكن من جهة امتناعهم عن تلك القرينة .  
وبالرجوع إلى تقييم واقع المجتمع في الدار نجد أن كفر القوم ليس من جهة أمتناعهم عن التلفظ بكلمة التوحيد ولا من جهة جحود الصلاة والصيام والزكاة والحج ، بل هم يأتون بهذه الشعائر حال كفرهم البواح في جانب الولاية والحاكمية والشعائر والنسك .
وينبني على هذا أن الحكم بإسلام المعين في هذه الدار لايكون بمجرد التلفظ بكلمة التوحيد ولا بمجرد إقامة الصلاة والآذان وإلقاء تحية الإسلام ، بل لايكون الحكم بإسلام المعين في هذه الدار إلاّ بأن يأتي بلفظ يعبر به عن الإجابة للإيمان ومفارقة ومباينة ما عليه القوم من عقائد .
يقول الإمام النووي رحمه الله: تحت حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين :
( من شهد أن لاإله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمتة ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق ... الحديث ) قال رحمه الله : هذا حديث عظيم جليل الموقع وهو أجمع ، أو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد ، فإنه عليه السلام جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على إختلاف عقائدهم وتباعدها ، فاقتصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين جميعهم . أهـ
 ( نقلاً عن فتح المجيد ص 36 )   
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تحت نفس الحديث :
فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعاً ( اليهود والنصارى ) في عيسى عليه السلام ويعتقد ما قاله تعالى فيه : أنه عبد الله ورسوله . أهـ ( فتح المجيد ص 41 )
ويقول الإمام البغوي رحمه الله :
 الكافر إذا كان وثنياً أو ثنوياً لا يقر بالوحدانية فإذا قال لاإله إلاّ الله حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف الإسلام ، وأما من كان مقراً بالواحدنية منكراً للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول: ( محمد رسول الله ) فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية للعرب خاصة فلابد أن يقول :( إلى جميع الخلق ) ، فإن كان كفر بجحود واجب أو إستباحة محرم فيحتاج إلى أن يرجع عما اعتقده  . أ هـ
(  فتح الباري ج 12 ص 326 نقلاً عن نيل الأوطار ج7 ص 198 )
ويقول الدكتور نعيم ياسين : وقد ذكر العلماء في هذا الموضع قاعدة عامة مفادها : أنه لا يحكم بإسلام الشخص إلاّ إذا أقر بالشهادتين وكان هذا الإقرار كافياً في نقض جميع معتقداته الباطلة التي إشتهربها ، فإن لم يكن كذلك كان لابد من النطق بها والتبرئ من المعتقدات الباطلة التي لم يندرج نقضها تحت الشهادتين . أهـ
 ( من كتاب الإيمان ص 97 طبعة مكتبة الزهراء )
إذن نخلص من خلال ماتقدم إلى أن مقصود الشارع من تشريع هذه النصوص هو وضع سمات وأمارات وقرائن للتفريق بين المسلم وغيره ، ومن ثم فإن هذه القرائن والأمارات قد تكون معتبرة في واقع دون واقع وفي زمان دون أخر بحسب تحقيق هذا المقصد من عدمه .
الأصل الثالث : عدم اعتبار القرينة المشتركة .
وفحوى الأصل الثالث أنه إذا كان مقصود الشارع من شرع هذه النصوص هو التفريق بين المسلم وغيره فإن الإشتراك بين المسلم والكافر في هذه الألفاظ والقرائن يجعل من المستحيل عقلاً وشرعاً وواقعاً تحقق مقصود الشارع ، ويعد إعمال هذه النصوص في واقع يشترك فيه المسلم مع الكافر في هذه الألفاظ والقرائن ، من قبيل تحريف الكلم عن مواضعه هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن هذا المسلك يعدُ من قبيل الأخذ بظواهر النصوص من غير تدبر لمعانيها ولا نظر في مقاصدها والقطع بالحكم بها ببادئ الرأي والنظر الأول ، ومعلوم أن هذين المسلكين يصدان عن اتباع الحق ويضادن المشي على الصراط المستقيم .
هذا فضلاً على أن سلوك هذين المسلكين يؤديان إلى هدم ركن البراءة من المشركين وذلك بموالاة طوائف هذه الدار واعتبارهم مسلمين لهم ماللمسلمن وعليهم ماعلى المسلمين .
نعود لنقول أن الإشتراك بين المسلم والكافر في التلفظ بكلمة التوحيد أو غيرها يجعل هذه القرينة غير معتبرة شرعاً في الحكم بإسلام من أتى بها .
ففي حديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن لدعوة أهلها إلى التوحيد كان القوم يتلفظون بكلمة التوحيد ( لا إله إلاّ الله ) ولم يكن كفرهم من جهة جحود هذه الكلمة كما هو الحال في مكة وجزيرة العرب أنذاك ، فلم يكن معاذاً يحكم بإسلام كل معين بمجرد التلفظ بكلمة التوحيد ، وكذلك الصحابة عندما قاتلوا أهل اليمامة الذين كفروا من جهة إشتراك مسيلمة في النبوة فلم يتردد الصحابة في إعتبار اليمامة دار ردة رغم الأذان والصلاة ولم يترددوا في تكفير أحد لمجرد قول ( لا إله إلاّ الله ) حتى يتبيّنوا من معتقدهم في مسيلمة الكذاب وذلك بالرغم من وجود أفراد يكتمون إسلامهم ومعتقدهم الصحيح في النبوة مثل ( مجاعة واليشكرى [6]) إلاّ أن الصحابة لم يعتدّوا بهذه الأمارات لمعرفتهم بمقصود الشارع منها وهو تمييز المسلمين عن غيرهم فعرفوا أن اشتراك المرتدين مع المسلمين في هذه الأمارات يتنافى مع مقصود الشارع من هذه النصوص ، حيث أنا أعمال هذه النصوص في مثل هذا الواقع يستوجب التحقيق في مواقف الأفراد فرداً فرداً وفي ذلك توقيف للأحكام الشرعية وجريانها على مستحيلات وفي ذلك تعطيلاً لها وهذا كما قلنا لم يفعله الصحابة .
الأصل الرابع : تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص .
ومن جهة أخرى فإن الصحابة يعرفون أن تعميم العمل بهذه النصوص في كل زمان ومكان يلزم منه الحكم بإسلام كثير من الطوائف المعلوم حالها المعلوم ماهي عليه من الكفر .
يقول الإمام عبد القاهر البغدادي رحمه الله :
ذكرنا أن بعض الناس زعم أن إسم ملة الإسلام واقع على كل مقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن كل ماجاء به حق كائناً قوله بعد ذلك مكان ، وهذا اختيار الكعبي في مقالته ، وزعمت الكرامية أن إسم أمة الإسلام واقع على كل من قال ( لا إله إلاّ الله ، ومحمداً رسول الله )  سواءً أخلص في ذلك أو أعتقد خلافه .
وهذان الفريقان يلزمهما إدخال العيسوية من اليهودية والمشكانية منهم في ملة الإسلام لأنهم يقولون لاإله إلاّ الله محمد رسول الله ويزعمون أن محمد كان مبعوثاً إلى العرب وقد أقروا أن ماجاء به حق .
وقال بعض الفقهاء من أهل الحديث : إسم أمة الإسلام وقع على كل من أعتقد وجوب الصلوات الخمس إلى الكعبة وهذا غير صحيح لأن أكثر المرتدين إرتدوا بإسقاط الزكاة في عهد الصحابة وكانوا يرون وجوب الصلاة إلى الكعبة ، وانما ارتدوا بإسقاط وجوب الزكاة وهم المرتدون من بني كندة ، فأمّا المرتدون من بني حنيفة وبني أسد فإنهم كفروا من وجهين :
إحداهما : إسقاط وجوب الزكاة .
والثاني : دعواهم بنبوة مسيلمة وطليحة ، وأسقط بنو حنيفة وجوب صلاة الصبح وصلاة المغرب فأزدادو كفراً على كفر .
والصحيح عندنا أن إسم ملة الإسلام وقع على كل من أقر بحدوث العالم وتوحيد صانعه وقدمه وأنه عادل حكيم مع نفي التشبيه والتعطيل عنه وأقر مع ذلك بنبوة جميع أنبيائه وبصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته إلى الكافة وبتأبيد شريعته وبوجوب الصلوات الخمس إلى الكعبة وبوجوب الزكاة وصوم رمضان وحج البيت على الجملة فكل من أقر بذلك فهو داخل في أهل ملة الإسلام وينظر فيه بعد ذلك فإن لم يخلط إيمانه ببدعة شنعاء تؤدى إلى الكفر فهو الموحد السني ، وإن ضم إلى ذلك بدعة شنعاء نظر فإن كان على بدعة الباطنيه أو البيانية أو المغيرية أو المنصورية أو الجناحية أوالسبائية ....... وذكر الفرق ثم قال : أو كان من يحرم شيئاً مما نص القرآن على إباحته بإسمه أو أباح ماحرم القرآن بإسمه فليس هو من جملة أمة الإسلام أ هـ
( الفرق بين الفرق ص 243 ، 244 ) كما ذكر هذا الكلام أيضاً ص 31 .
من هنا نخلص إلى أن الإشتراك بين المسلم والكافر في هذه الأمارات والقرائن يجعلها غير معتبرة شرعاً ولا يعتمد عليها للحكم بالإسلام ، ومن المعلوم أن هذا الإشتراك قد يحدث في زمان دون زمان  وفي مكان دون آخر فمجرد قول ( لاإله إلاّ الله ) كان معتبراً في مكة لأنه لم يكن أحد يقولها غير المسلمين في حين أن مجرد قول ( لا إله إلاّ الله ) لا يعتد به في حروب الردة أو فتح خيبر وكذلك الأذان يعتد به كأمارة معتبرة للحكم بأن الدار دار إسلام في زمن النبي صلى الله عليه و سلم  في حين لم يعتد به في زمن حروب الردة وحروب التتار ولا في زماننا الحاضر ولا أظن أحداًَ  ـ حتى من المخالفين ـ يرى أن أمريكيا ودول أوروبا ديار إسلام ، هذا وقد جاء في الحديث الصحيح  قبول هذه القرينة ولكن للشارع فيه مقصد وهو التميز،  والإشتراك يمنع التميز، وامتناع التميز يعطّل مقصد الشارع وبالتالي يوقف العمل بالحديث وهكذا تغيرت الفتوة بتغير المكان والزمان ، وأيضاً فإن آية سورة النساء وسبب نزولها صريح في تشريع قبول قرينة السلام ـ السلام عليكم ـ لأنه لم يكن أحد يقولها في ذلك الوقت إلاّ المسلمين ، بل إن الكفار يأنفوا استكباراً أن يحيوا بعضهم بتحية المسلمين يومها فيما بينهم ، أمّا الآن فتجد كثيراً من الأجانب الذين يعملون في هذه الديار يقولون السلام عليكم من باب إنها تحية القوم ومن العجب كما ذكرنا سالفاً أن مخالفينا يحكمون بكفر كل الأجانب الذين يقولون السلام عليكم رغم أنهم لم يروا منهم نواقض صريحة ، فقط لأنهم من دول أروبا ، يحكمون بكفرهم جميعاً رغم أن منهم قلة قليلة تنتسب إلى الإسلام وإذا سألت المخالفين لماذا لم تعملوا بالآية والأحاديث مع هؤلاء الأطباء والعاملين في المستشفى مثلاً ؟ أليس الله عز وجل تعبدكم بالنصوص ؟!  
قالوا : نحن نعرف واقعهم وأنهم لايقولون هذه الكلمة تعبيراً عن الإجابة للإيمان ، بل هم يشتركون معنا فيها لأجل التحية فقط ولهذا لم نعتد بها في الحكم بإسلامهم .
فنقول لهم : هذا عين ما فعلناه نحن مع هذه الأحاديث عندما باشرنا واقع هذه الدار فوجدنا القوم يشتركون معنا في هذه القرائن دون أن يكون إتيانهم بها تعبيراً عن الإجابة للإيمان . فلماذا تحرمون علينا ما تبيحونه لأنفسكم . وكما قال أحدهم :
          حرامُ على بلابلهِ الدوحُ . . . حلالُ للطيرِ منْ كلِ جنسِ  .
ونختم هذه الأصول بنكتة لطيفة لعل المرء يسهل عليه ملاحظتها بكل يسر، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لنا أمارات وقرائن متعددة ولم يقتصر الأمر على أمرة واحدة تصلح لكل زمان ومكان ولا يجوز تعديها بحال .
فقد جاء في حديث : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدووا أن لا إله إلاّ الله ، وفي رواية أخرى : حتى يصلوا صلاتنا ويستقبلوا قبلتنا ويأكلوا ذبيحتنا ، وفي رواية أخرى : من شهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق ، وفي آية النساء وحديث شرع لنا الأذان وفي حديث قبلت كلمة صبئناً ...
لماذا هذا التعدد في الأمارات ؟ ألم تكن أمارة واحدة صالحة لكل زمان ومكان تكفي ؟!
الجواب : أن واقع مكة غير واقع المدينة وواقع المدينة غير واقع اليمامة وهكذا كل زمان ومكان حصل فيه الإشتراك في قرينة كان لابد من قرينة غير الأولى تكون فارقة ومناسبة للمكفرات الوقعة في ذلك الزمان والمكان .
وأخيراً فإن مقصد الشارع من هذه الأمارات هو تميز المسلم عن الكافر واشتراك المسلم والكافر في هذه الأمارات ضدان لايجتمعان ولا يرتفعان .
فائدة :
 لمّا دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب في مكة وهو على فراش الموت لم يطلب منه غير كلمة التوحيد ، فقال له : ياعم قل لاإله إلاّ الله كلمة أحاج لك بها عند الله[7] ، بينما لما دعى اليهودي في المدينة وهو على فراش الموت فقال له : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله .
فلماذا زاد رسول الله لليهودي كلمة : وأني رسول الله ، ولم يقوله لعمه أبا طالب في مكة ؟
والجواب ـ كما هو واضح من السيرة ـ : لأن عمه أبا طالب يعلم أنه رسول الله وإنما كان كفره من جهة الشرك بالاإله إلاّ الله بعبادة الآلهة مع الله وبدليل شهادة أبا طالب لرسول الله أنه رسول من الله قوله لإبنه على رضي الله عنه في مكة : أمّا أنه لم يدعك إلاّ إلى خير فالزمه [8].
وقوله في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم :
   وإن فخرت يوماً فإن محمداً       هو المصطفى من سرها وصميمها
وشعره في لاميته الشهيرة :
   لقد علموا أن ابننا لا مكذب       لدينا ولا يعنى بقول الأباطل 
إلى قوله :
   فأيده رب العباد بنصره            وأظهر دينه حقاً غير باطل[9]
وأمّا اليهودي فمع دعوته لشهادة أن لا إله إلاّ الله شهادته لرسول الله بالرسالة أيضاً لأن اليهود في المدينة كانوا لا يشهدون لرسول الله بأنه رسول مبعوث من الله ، وكانوا يقولون للأنصار في المدينة عندما قدم عليهم رسول الله  : ماجآءنا بشيء نعرفه ، وما هو بالذي كنّا نذكره لكم[10] .  فلمّا يشهد أحدهم للنبي بأنه رسول مبعوث من الله يكون ذلك دليل إسلامه في ذلك الوقت . ومن هذا المبدأ يقول بعض العلماء :
  قال الإمام البغوي رحمه الله في من يقول لاإله إلا الله : وهذا في الوثني الذي لا يعتقد التوحيد إذا أتى بكلمة التوحيد يحكم بإسلام ثم يجبر على سائر شرائط الإسلام فأمّا من يعتقد التوحيد لكنه ينكر الرسالة فلا يحكم بإسلامه بمجرد كلمة التوحيد حتى يقول : محمد رسول الله فإذا قالها كان مسلما ً ، إلاّ أن يكون من الذين يقولون محمد مبعوث للعرب خاصة فحينئذٍ لا يحكم بإسلامه بمجرد الإقرار بالرسالة حتى يقر أنه مبعوث إلى كافة الخلق ثم يستحب أن يمتحن بالإقرار بالبعث والتبرؤ من كل دين يخالف الإسلام وكذلك المرتد يعود إلى الإسلام عن الدين الذي انتقل إليه . ) أ . هـ .
                  ( شرح السنة للإمام البغوي ج10 ص241 )
 ويقول الإمام أبي الحسن الشيباني رحمه الله في السير الكبير : 
    فأمّا اليهود والنصارى فهم يقولون لا إله إلا الله . فلا تكون هذه الكلمة دليل إسلامهم . وهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يقرون برسالته فكان دليل الإسلام في حقهم الإقرار بأن محمد رسول الله . على ما روى عنه أنه دخل على جاره اليهودي يعوده فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله و أني رسول الله . فنظر الرجل إلى أبيه فقال له : أجب أبا القاسم فشهد بذلك ومات – فقال صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي اعتق بي نسمة من النار . ثم قال لأصحابه : لُوا أخاكم [ لُوا : أمر في ولى يلي وفي هامش ق أي لو أمره في الدفن والكفن .. ]

 . فأمّا اليوم [ اليهود ] ببلاد العراق فإنهم يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمد رسول الله ولكنهم يزعمون أنه رسول إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل ويتمسكون بظاهر قوله تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ(الجمعة:2)
 فمن يقرّ منهم بأن محمد رسول الله لا يكون مسلماً حتى يتبرأ من دينه مع ذلك أو يقر بأنه دخل في الإسلام حتى إذا قال اليهودي أو النصراني : أنا مسلم . أو أسلمت . لا يُحكم بإسلامه لأنهم يدّعون ذلك . فإن المسلم هو المستسلم للحق المنقاد له . وهم يزعمون أن الحق ما هم عليه . فلا يكون مطلق هذا اللفظ في حقهم دليل الإسلام حتى يبرأ من دينه مع ذلك .أهـ
                 ( شرح السير الكبير ج1ص150 )
قلت : وتأمل كيف تغير الحال بالنسبة لليهود الذين يقرون للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة ولكن للعرب خاصة ـ قول الإمام آنفاً :  " وأمّا اليوم اليهود ..الخ ـ  فلا يكون ذلك دليل إسلامهم حتى يشهدوا بأن الرسول مبعوث إليهم أيضاً ، ويتبرأون من الدين الذي كانوا عليه" . والله أعلم وأحكم وهو الهادي إلى سواء السبيل .
             
                   شبهات وإيضاحات
وكما هو الحال دائماً لا ينفك المخالفون عن الإستدلال محاولين التشكيك في قضية الحكم على الناس بناءاً على ما قدمناه وقد تشبتوا بعدة أمور وأبعدوا النجعة في أموراً أخرى كما أبتدعوا أموراً لم يسبقهم إليها أحد كما سترى أخي القارئ :
1 ـ قولهم إن قضية الحكم على الناس تنبني على ثلاثة مراتب النص ، الدلالة ، تبعية الوالدين أو الدار ولا يجوز الإنتقال من الأول إلى الثاني أو الثالث إلاّ إذا تعذر وجود الأول وهكذا بالترتيب .
 هذا كلام صحيح لا نخالف فيه ولكننا نختلف في النص . فهم يعرّفون النص بأنه : كلام الله عز وجل ورسوله الكريم  مثل قوله تعالى : ﴿ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً(النساء:94 )
وقوله عليه السلام " أمرات أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله .. الحديث )) .
وهذا تعريف خاطئ والخطأ فيه أوقعهم في مغالطات وتناقضات كبيرة . أبرزها أنهم يعيشون حالة إنفصام عقائدي بين النظرية والتطبيق ، فتجدهم يقولون نحن أعتدنا هذا الإعتقاد مؤخراً وكنا قبل أعتناقه كفاراً وأهل هذه الدار لم نرى ولم نسمع منهم مايثبث اعتقادهم لعقيدتنا لا في بيوتهم ولا في مدارسهم ولا في منتدياتهم ولا حتى في مساجدهم ولكنهم مسلمون !!!  
                                          
كما أنهم يعتقدون أن النص ـ وفقاً لتعريفهم الخاطئ ـ صالح لكل زمان ومكان ويتنزل في هذا الواقع وفي كل واقع .
وهذا أيضاً أوقعهم في تناقضات كما في دار مسيلمة وخيبر وكل دار لم يكن كفرهم من جهة جحد كلمة التوحيد وكما في المثال السابق حيث الأجانب والنصارى العاملين في هذه الديار يتلفظون بتحية الإسلام ولا يحكمون بإسلامهم وفضلاً عن التناقض فهو مخالف لما عليه السلف الصالح والعلماء كما ذكرنا طرفاً من أقوالهم .
وأما قولهم أن النصوص صالحة لكل زمان ومكان فهذه بدعة لم يسبقهم إليها أحد ونحن نتحداهم أن يأتوا بقول واحد لعلماء السلف يثبت صلاحية هذه النصوص لكل زمان ومكان .
لنرجع لتصحيح هذا الإنحراف في تعريف النص فنقول :
النص : هو المكلف ، أي كلامه الصادر عنه والذي يعبر به عن قبول الإسلام ومفارقته الكفر .
ومما يدل على ذلك أن النص قد يكون نص كفر وقد يكون نص إسلام ،  مثال الأول : أن الله ثالث ثلاثة .
مثال الثاني : لا إله إلاّ الله .
ومما يشهد به على صحة تعريفنا أن النص لا يشترط فيه لفظ معين قاله الله تعالى أو رسوله الكريم بل يكفي كل لفظ يعبر به المرء عن قبول الإسلام ومفارقة الكفر وبأى لغة كان هذا اللفظ مثل صبئنا ومتراس ... إلخ .
أيضاً فإن النص المعتبر بالحكم بالإسلام يختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال والأشخاص بحسب المكفرات الواقعة كما سردنا طرفاً من أقوال العلماء في ذلك وهذا أمر معلوم بضرورة العقل أيضاً .
 ومن ثم فإن تصحيح  هذا التعريف لمدلول النص يكشف المغالطة الكبرى التي يتشدقون بها وهي قولهم نحن نلتزم النصوص والله عز وجل إنما تعبدنا بالنصوص ولم يتعبدنا بالواقع فسبحانك اللّهم تضل من تشاء وتهدي من تشاء إنك على كل شئ قدير .
 2 ـ قولهم : إننا نحكم بالظن والظن مذموم وهو أكذب الحديث ،
قال تعالى :﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً(النجم:28)
أولاً : وعلى فرض صحة قولهم ـ وهو غير صحيح كما سيأتي ـ فإنهم يسلكون أشنع وأبعد مما نقول به .
فإنهم يقولون غالب المجتمع كفار وهم يتلفظون بكلمة التوحيد من باب التقليد والميراث وليس تلفظهم تعبيراً عن الإجابة للإيمان ورغم ذلك فهم يعتبرون هذا التلفظ من كل معين ويحكمون بإسلامه ، لإحتمال ضعيف وأقل القليل من الظن أن يكون تلفظه تعبيراً عن الإجابة للإيمان
أنظر أخي القاريء كيف يبيحون لأنفسهم أشنع وأبعد مما يحرمون علينا ، وعلى كل حال فهم لم يحسنوا تعريف مصطلح الظن كما لم يحسنوا تعريف النص من قبل .
فالظن ليس مذموماً بالإطلاق ، وإليك بعض أقوال أهل العلم في تعريف الظن قال الأمير الصنعاني رحمه الله في تعريف الظن :
 الظن : لفظ مشترك بين معاني يطلق على الشك كما صرح أئمة اللغة ففي القاموس الظن التردد والراجح بين طرفي الإعتقاد غير الجازم أ هـ
فهاذان إطلاقان ويطلق على اليقين كما قوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (البقرة:46 )
مع قوله في صفة المؤمنين :  ﴿ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(النمل:3 )
لأنه لابد من اليقين في الإيمان بالآخرة ويطلق على التهمة كما في قوله تعالى : ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(التكوير:24 )
فمن قرأءها بالظاء المشالة ، أي بمتهم كما قاله أئمة التفسير وإذا عرفت هذا يحرم العمل به إتفاقاً وهو الذي هو أكذب الحديث وهو الذي لا يغني من الحق شيئاً وهو بعض الأثم الذي أراده تعالى : ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ(الحجرات:12)
وذلك لما تقرر في الفطر وقررته الشريعة إن لاعمل إلاّ براجح يستفاد من علم أو ظن وأما الظن الذي بمعنى الطرف الراجح فهو متعبد به قطعاً بل أكثر الأحكام الشرعية دائرة عليه وهو البعض الذي ليس فيه إثم المفهوم من قوله تعالى : ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ(الحجرات: 12 ) فإن خبر الآحاد معمول به في الأحكام وهو لا يفيد بنفسه إلاّ الظن والمصنف ابن حزم رحمه الله تقدم له أن الجاهل يسأل العالم عن الحكم فيما يعرض له فإذا أفتاه وقال هذا حكم الله ورسوله عمل به أبداً ، ومعلوم أن هذه رواية أحادية من العالم بالمعنى ولا تفيد إلاّ الظن وقد أوجب قبولها وكذلك أمر الله عز وجل بإشهاد ذوى عدل فإن شهدا وجب على الحاكم الحكم بما شهدا به وشهادتهما لا تفيد إلاّ الظن بل كونهما ذوى عدل لا تكون إلاّ بالظن بل قال صلى اله عليه وسلم : ( إنكم تختصمون إلى ....إلى قوله فإنما أقطع له قطعة من نار ) وهذا صريح أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالظن الحاصل عن البينة إذا لو كان بالعلم لما كان المحكوم به قطعة من النار لأنه يجوز أن البينة التي حكم بها باطلة في نفس الأمر، وفي حديث ابن مسعود في سجود السهو { إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث أو أربع وأكثر ظنك على أربعة ... الحديث }
فاعتبر الظن في أشرف العبادات وحديث الطبراني والحاكم { قال الله أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ماشاء } وحديث { لا يموتن أحدكم إلاّ وهو يحسن الظن بالله } أخرجه أحمد ومسلم وأبو داودوابن ماجه .
فهذا كله عمل بالظن الراجح الصادر عن أمارة صحيحة ، وأما ما صدر لاعن أمارة صحيحة نحو ظن الكفار (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ )الآية  ... إلى قوله تعالى  (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) (الفتح:12)
فهذا ظن باطل مستند إلى أن الله تعالى لاينصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ومثل (( ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (فصلت:22)
الذي حكاه الله تعالى بقوله : (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (فصلت:23) فظنهم هذا مستند إلى الجهل بعلم الله وإحاطته ومنه في قصة الأحزاب في ظن المنافقين : (( وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) (الأحزاب:10)
فإنهم ظنوا غلبة الأحزاب للرسول ولذا قالوا : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (الأحزاب:12) وعكسهم أهل الإيمان فإنهم قالوا : (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ َرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الأحزاب:22)
فهذا البحث بحمد الله تعالى قد لاتجده في كتاب وإنما هو من فتح الكريم الوهاب وبه يزول الإشكال والإضطراب وتعلم أن المصنف أوجز في محل الإطناب فأخل بما يذكره هو في هذا الكتاب فإنه لايزال يستدل فيه بأخبار الآحاد وبعموم ألفاظها وألفاظ القرآن ، والكل لا يخرج عن الأدلة الظنية فاعرف قدر هذه الفائدة السنية . أهـ
( من إفادة خاتمة المحقيقين السيد محمد ابن اسماعيل الأمير جزاه الله عن الإسلام خيراً في هامش المحلي لابن حزم المحلي ج 1 ص 71 ، 72 معلقاً على كلام ابن حزم في أنه لايحل الحكم بالظن.) 

ويقول الإمام ابن القيم الجوزية عن الشافعي رحمه الله : 
أنه اعتبر قرائن الأحوال في أكثر من مئة موضع وذكرأمثلة .... إلى قوله : وهل السياسة الشرعية إلاّ من هذا الباب وهي الإعتماد على القرائن التي تفيد القطع تارة والظن . الذي هو أقوى من ظن الشهود بكثيرـ تارة ؟ وهذا باب واسع وقد تقدم التنبيه عليه مراراً ولا يستغني عنه المفتي والحاكم . أهـ
( أعلام الموقعين للإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله ج 4 ص 310 )

ويقول الإمام القرطبي رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) (الحجرات:12)

[ للظن حالتان :   
 b حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الأدلة ، ويجوز الحكم بها ، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات....
b الحالة الثانية : أن يقع فى النفس شيء من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده ، فهذا هو الشك ، فلا يجوز الحكم به وهو المنهي عنه ..
  وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبد الله بالظن وجواز العمل به ، تحكماً فى الدين ودعوى فى المعقول ، وليس فى ذلك أصل يعوّل عليه ، فإن الباريء تعالى لم يذم جميعه إنما أورد الذم في بعضه]. أهـ


ويقول الإمام إبن العربي رحمه الله :[ وعبادات الشرع وأحكامه ظنية في الأكثر حسبما بيناه فى أصول الفقه ، وهي مسألة تفرق بين الغبى والفطن ..] أ.هـ . أحكام القرآن لابن العربي سورة الحجرات آية 12
 

كما أنه لايخفي عليك أخي القارئ تقسيم العلماء للأدلة الشرعية إلى ( قطعي وظني ) فجعل الظني يندرج تحت مسمى الأدلة الشرعية .
فالقطعي هو المتواتر الذي لا يقبل النسخ ولا التخصيص ولا التقييد عليه ولكن مالم يثبت هذا الناسخ والمقيد والمخصص فهذا المسمى ظني هو المتعبد به قطعاً وهو دين الله قطعاً رغم هذه التسمية التي هي في مقابل القطع وليست بمعنى الشك والتردد أو ما يحتمل أن يكون من دين الله أو يحتمل غير ذلك لأن الله عز وجل تعبدنا بشرعه وذم أهل مكة لتعبدهم بالظن في السائبة والوصيلة والحام والخمس ودخول البيوت من غير أبوابها ........إلخ . فما اخترعوه من تلقاء أنفسهم .
فالظن هنا ليس بهذا الترادف المعنوي مع الظن المذموم بل أن تسمية ظني جآءت بما يقابل القطعي الذي لا يقبل أن يدخل عليه ناسخ ولا مقيد ولا مخصص في حين أن الظني يقبل هذه الأمور الثلاثة ـ لكن مالم يثبت هذه الثلاث فحكمها حكم ( العدم ) ويبقى الظني هو المتعبد قطعاً .
فمن غير المقبول عقلاً وشرعاً أن يدرج العلماء ماليس بدليل تحت تقسيم الأدلة الشرعية ، أيضاً من العلماء من يرى تخصيص عموم القرآن بحديث الآحاد وهي ظنية ، فمن الممتنع عقلاً وشرعاً أن يقول العلماء بتخصيص عموم القرآن بما ليس بدليل أصلاً !!
تطبيق ما سبق على مسألتنا :
فإننا عندما نستشهد على مسألتنا بقواعد فقهية مثل الغالب الأكثري يتنزل منزلة العموم القطعي[11] وقاعدة الحكم للغالب الشائع والحكم لغلبة الظن ...إلخ
أولاً : هذه القواعد ليست هي سندنا في الأساس إنما سندنا هو أصل الدين بمعنى أخر أن المسلم عندنا هو من أظهر قبول أصل الدين ورفض ماسواه بقرينة معتبرة شرعاً .
وقومنا هؤلاء الذين نحن بين أظهرهم حالهم كحال قوم يقرون بالتوحيد وينكرون الرسالة أو كقوم يقرون بالتوحيد والرسالة وينكرون البعث .
ثانياً : عندما نقول هذا كفره ظني فليس بمعنى الشك والتردد ولكنه بمعنى ما يقابل القطعي الذي صدر منه فعل مكفر أما الظني فعلى خلاف القطعي يحتمل أن يكون الشخص مسلماً ولكن مالم يثبت هذا الإحتمال فحكمه حكم العدم كما في حالة عدم وقوفنا على الناسخ والمخصص والمقيد فيبقى الظني هو دين الله المتعبد به قطعاً .
وأخيراً : فيما يتعلق بموضوع الظن ومخالفونا يعتقدون ما يعيبون علينا فهم يقولون هذه الدار دار كفر والغالب على أهلها أنهم كفار ثم يقولون هذا مستور الحال حكمه الإسلام !!
فنقول : من أين لكم بإسلامه يقيناً بل الحكم بإسلامه هو أقل القليل من الظن أنتم تحكمون بإسلامه ولم تسمعوا منه ( لاإله إلاّ الله ) ولا أي دلالة إسلام بل هو مسلم بمجرد كونه ليبي وفي نفس الوقت فإن الأجانب الذين يقولون السلام عليكم تحكمون بكفرهم فإن لم يكن هذا هو اتباع الظن فلا أدري ما هو ، وأن لم يكن هذا هو التناقض فلا أدري ماهو ؟!! .
أما تطرق الإحتمال لمسلكنا بأنه يجر إلى تكفير المسلمين
نقول : هو تطرق ضعيف جداً وظن قليل وفي المقابل فإن الأخذ بهذا الإحتمال يؤدي إلى تعطيل الأحكام الشرعية وهذا مالم يفعله الصحابة عندما غزوا كل الديار التي لم يكن كفرها من جهة جحود كلمة التوحيد مثل ديار الردة وخيبر واليمن فلم يتوقفوا ويستفصلوا كل معين على حدة لتطريق الإحتمال أن يكون مسلماً كاتماً لإيمانه ...إلخ
كما أن الصحابة في أول عهدهم بمكة يسلم الرجل ولا يدري إسلام غيره فيراه يطوف بالبيت فينسبه إلى قومه "كافر " ولا حرج عليه لأنه لم يرى منه إسلاماً وما شهد إلاّ بما علم وقد كان الطواف حينها قرينة مشتركة لا يعتد بها للحكم بالإسلام كما هو الحال في زماننا بالنسبة للتلفظ بكلمة التوحيد وقول السلام عليكم .

3 ـ قولهم : أن المعين في هذه الدار إذا لم نرى منه كفراً ولا إسلاماً فهو مستور الحال ولا نحكم بكفره .
ثم يستشهدون على هذه المقالة بفتاوى العلماء في دار بني عبيد الله القداح واختلافهم في جواز الصلاة خلاف مستور الحال .
نقول وبالله التوفيق :
أولاً : أنتم تقولون بأن الحكم على الناس مبني على ثلاث ركائز ،
1 ـ النص
2 ـ الدلالة
3 ـ تبعية الدار أو الولدين
فإمّا أن يصدر من المكلف نص أو دلالة إسلام وإما نص أو دلالة كفر ، وإذا لم تظهر إحدى هاتين الركزتين لم يبق إلاّ حكم التبعية فإمّا أن يكون المكلف في دار إسلام فيأخذ حكمها وإمّا يكون في دار كفر فيأخذ حكمها ، ولا مناص من إحدى هذه الثلاث فمن أين لكم بمستور الحال ؟!! فمستور الحال بالنسبة لقضية الحكم على الناس بالإسلام أو الكفر بدعة منكرة .
نعم مصطلح مستور الحال يصح إستعماله في علم مصطلح الحديث[12] وعلم تجريح وتعديل الرجال فنقول هو مسلم مستور الحال أو مجهول الحال في دار الإسلام التي تكثر فيها البدع كالإرجاء والإعنزال فنقول هو مسلم مستور الحال بمعنى أنه لا يعلم حاله مع هذه البدع .
وهذا بعينه ما حدث في دار بني عبيد الله القداح وإن كانت الطائفة الحكمة تبطن الكفر وتستعين بالزنادقة وأهل البدع ، لكن الناس في مصر على حالهم من إظهار الإسلام ، فنقول في حق العامي : " هو مسلم مستور الحال بالنسبة لموقفه مما تفشى من عقائد المبتدعة " أما أن نأتي بفتاوى العلماء في دار بني عبيد الله القداح وننزلها في واقع هذه الديار ونقول كل ليبي لا نرى منه لا كفر ولا إسلام فحكمه حكم مستور الحال ، فهذه بدعة ثم يضاف إليها بدعة أخرى وهي القول بمعاملته معاملة المنافقين فمن أين لكم السند الشرعي في معاملة المسلم مستور الحال معاملة المنافقين ، أليس الأصل في المسلم براءة الذمة ، وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يعاملون من أظهر لهم الإسلام معاملة المنافقين ، وما الضابط بين معاملة هذا المسلم معاملة المؤمنين ومعاملة ذلك معاملة المنافقين ؟
ومن العجب أن مخالفينا يقولون أن هذه الدار دار كفر والغالب على أهلها الكفر ، وحكمهم بالعموم كفار أما على التعيين فلا ، وهذا نقض للدعوى السابقة فكلمة كفار هي جمع لكلمة كافر وأحكام القرآن كلها أحكام عموم قال تعالى : (ِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) (النمل:43 )
وغيرها من الآيات ، وكذلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام في بلدة يسمعون فيها الأذان أو لا يسمعون ، فالأذان يردده شخص واحد فعدم سماع الأذان يثمر حكم عام على كل أهل القرية ولا محل للإستفصال عن كل معين على حدة لإحتمال بلوغ الإسلام إليه وتدينه به ، وعلى كل حال فإن فتح باب السفسطة وتطريق الإحتمالات التي وضعها هؤلاء الشكاكون يشمل حتى النصارى اليوم إذا من المحتمل ـ ولو كان هذا الإحتمال شاذاً أو خيالياً ـ أن يكون منهم من لم يسمع بالإسلام ولم يسمع بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو على النصرانية الحقة ، فهو على هذا " مسلم " ... ثم نعمم هذه الحالة على كل معين من أفراد النصارى ، فيصير كل من قابلناه أو من هو في ديارهم ( مستور حال مسلم ) إذا يحتمل أن يكون هو ذلك النصراني المسلم ويرى هذا على اليهود وغيرهم فيصير كل معين على وجه الأرض مسلم مالم تقم قرينة على كفره .

وأخيراً :
في موضوع مستور الحال نقول أن الحوادث التاريخية ـ كما في دار بني عبيد الله القداح ـ لا تصلح دليلاً في دين الله لعدم تحقيقها هذا أولاً، وثانياً لعدم تنقيح مناطها والحكم بأنه يتطابق مع مناط هذه الديار .
4 ـ قولهم : أن الحكم على الظاهر والله عز وجل يتولى السرائر فيكفينا الظاهر ولا ننقب عن الباطن ثم يستدلون بحديث أسامة رضي الله عنه المشهور ( أفلا شققت على قلبه ) ثم يستشهدون بكلام للعلماء في قضية الحكم على الظاهر ، مثل كلام شارح الطحاوية ...
نقول هذا كله كلام صحيح نوافقكم فيه من حيث أنه حكم شرعي ولكن يبقى الأصل الثاني لإعمال هذا الحكم وهو مناط هذه القاعدة ( الحكم على الظاهر ) وهو مانختلف معكم فيه ، فنحن لاننكر حديث أسامة رضي الله عنه ولانقول بأن الحكم يكون من خلال الباطن ـ كما يحاول أن يصوّرنا مخالفونا ـ لأن الباطن لاسبيل إليه مطلقاً حتى في حق الشخص الذي يمتحن ويشرح عقيدته شرحاً مفصلاً ويأتي عليها بالإيمان المغلّظة ـ يبقى الباطن غير معلوم يقيناً فلعله منافقاً أو شاكاً ...إلخ .
فنقول أن الحكم على الظاهر ولكن أين هو الظاهر المعتبر للحكم بالإسلام ؟
هذا هو السؤال .
هل مجرد التلفظ بكلمة التوحيد يُعدُ ظاهراً معتبراً صالحاً لكل زمان ومكان مهما كان معتقد القائل ومهما كانت طبيعة المكفرات الواقعة في زمانه ومكانه ؟ وهل قبول التلفظ بكلمة التوحيد مطلق أم أنه مشروط بأن يكون تعبيراً عن الإجابة للإيمان ، ومخصوص بعبدة الأوثان ومن لم يكن كفره من جهة جحود كلمة التوحيد ؟
هذه هي الأسئلة محل الخلاف وقد سبق أن أجبنا عليها مما يغنى عن إعادتها هنا.
وبكل وضوح نقول : إن الحكم عندنا على الظاهر .
ومناط ذلك أن يأيتنا شخص ويتلفظ بأي كلمة وبأي لغة نفهم منه الإجابة لداعي الإيمان ( عقيدة التوحيد للجماعة المسلمة ) فإننا نحكم بإسلامه الظاهر والله عزوجل يتولى سريرته فلا نقول عنه منافق ولا كاذب ولا طامع في دنيا ولا خائف ولا ....إلخ فلا نشق على باطنه .
هذا هو مناط حديث أسامة رضي الله عنه عندنا وهذا هو مناط قاعدة الحكم على الظاهر فالرجل الذي قتله أسامة رضي الله عنه أتى بظاهر معتبر لأن كلمة ( لا إله إلاّ الله ) لم تكن من دين هذا الرجل وكان أسامة رضي الله عنه يقاتله لأجل جحوده إياها ، فلما أتى بها كان يجب الكف عنه والحكم بظاهره دون التنقيب عن الباطن أما بالنسبة لفتاوى العلماء أمثال شارح الطحاوية فهي فتاوى مرتبطة بواقع دولة إسلامية فكانت ( لا إله إلاّ الله ) نص معتبر في حق من أتى بها .
في حين أن هؤلاء العلماء لم يقبلوا مجرد التلفظ بكلمة التوحيد في أزمنة وأمكنة أخرى كما في حروب الردة والتتار ومن لم يكن كفره من جهة جحود التوحيد .
5 ـ قولهم : مانحكم به هو الإسلام الحكمي وليسى الإسلام الحقيقي !!
نقول : نحن ننازعكم في الإسلام الحكمي ، لأننا وإياكم لا سبيل لنا للحكم على أحد إسلاماً حقيقاً إلاّ بإخبار الله عز وجل ورسوله كما في حال المبشرون بالجنة ، ونسألكم سؤالاً واحداً : يحكم بعضكم لبعض بالإسلام فهل تعتبرون ذلك إسلاماً حقيقياً ؟ فإذا قلتم هو إسلام حقيقي قلنا لكم ماالدليل على ذلك ؟ أليسى من المحتمل أن يكون صاحبه منافقاً أو شاكاً أو طامعاً في دنيا .. إلخ
 ثم وهذا هو السؤال الأهم : ماهو الضابط عندكم في قولكم إسلام " زيد " حكمي وإسلام " عمر " حقيقي " ؟ وكيف يتنقل المرء من الأول إلى الثاني ؟ وإذا كان الإسلام الحقيقي مرهون بالباطن فكيف وقفتم على هذاالباطن ؟

ردود سريعة :
 ليس لدى المخالف مستمسك في قوله تعالى : ( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (الفتح:25)
لأن معنى  ( لَوْ تَزَيَّلُوا) أي : لو تميز الكفار من المؤمنين .(  من تفسير ابن كثير) والمعنى أن الله عز وجل منع العذاب عن الكفار لوجود مؤمنين ومؤمنات ، وكان عددهم تسعة بين أظهر الكفار ، ومعلوم أن إيقاف العذاب عن الكفار شئ والحكم عليهم بالإيمان والكفر شئ أخر .. وهل يعني إيقاف العذاب أن الجميع مسلمون ؟!
وهل قال أحد من الصاحبة إثناء فتح مكة  : سأتوقف أو أحكم بالإسلام لعشرات الآلاف من أهل مكة لوجود تسعة مؤمنين ؟! هذه السيرة بين أيدينا فأتونا بقول واحد يثبت ذلك .
أما الإحتجاج بمعاملة النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين ، فهم أولاً قد أتوا بنص معتبر والتزموا شرائع الإسلام ظاهراً فقياس جاهلية اليوم عليهم قياس فاسد لأن جاهلية اليوم لم يأتوا بظاهر معتبر وإنما يقاس عليهم من أتى بالنص المعتبر في هذه الأيام فنقول في حقه : ( لنا ظاهره وسريرته إلى الله فهو يتولاه )

ونقول لهم : كيف تنسبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مايأنف أحدكم أن ينسبه لنفسه : فإذا قلنا لأحدهم لو أعلمك رسول الله صلى عليه وسلم إن فلاناً كافر بالله منافق زنديق فهل تحكم له بالإسلام وتعتقد أنه مسلم ؟
فكيف تنسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاقة والمعاندة لخبر الله بأن فلان وفلان منافقين يبطنون الكفر ثم بعد ذلك هو يعتقد إسلامهم .
سبحانك اللّهم هذا بهتان عظيم .
ثم أن المنافقين أصناف منهم من علمت أعيانهم ، ومنهم من علمت سيماهم ومنهم لم يعلم .
 وأخيراً :
 ليس ثمة رابطة بين الكف عن قتلهم لمصلحة أقتضتها ظروف الدعوة[13] ، وبين الحكم بالإسلام ، خاصة تكلم العلماء في علة عدم قتلهم ومنها عدم إكتمال النصاب في الشهود ، وإتخاذهم أيمانهم جنة ..إلخ وليس أولى من تكفير النبي صلى الله عليه وسلم لبعضهم ومن تحرى ( عمر لحذيفة ) في صلاته عليهم ، فلماذا يمنع حذيفة رضي الله عنه عن الصلاة عليهم ؟ 

ونسأل الله الهُدى والرشاد، فمنه وحده التوفيق والسداد وهو على كل شيء قدير. وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله                                                                               رب العالمين..

لقد تم بعون من الله يوم الجمعة ‏01‏/01‏/1428هـ
 ( ولا تنسونا من الدعاء )
                              


           



                                      ا لمراجع
1. أيآت من القرآن الكريم
2. تفسير في الظلال القرآن ................. للشهيد السيد القطب
3. تفسير الجامع  لأحكام القرآن .................. للقرطبي
4.  أحكام القرآن ............................. للأبن العربي
5. كتاب الموافقات ......................... للإمام الشاطبي
6. كتاب الإعتصام .................... للإمام الشاطبي
7. كتاب مجموعة التوحيد ...... للشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
8. كتاب أعلام الموقعين ............... للإمام ابن القيم الجوزية
9. كتاب مجموعة الفتاوى ............للإمام ابن تيمية
10.           كتاب فتح المجيد .................. للشيخ أبو سليمان الخطابي
11.           كتاب نيل الأوطار ................... للإمام الشوكاني
12.كتاب الإيمان ........................... للشيخ نعيم ياسين
13.كتاب فتح الباري ................ للإمام ابن حجر العسقلاني
14.كتاب الفرق بين الفرق ........... للإمام عبد القادر البغدادي
15. هامش كتاب المحلي  ............ للأمير محمد بن اسماعيل الصنعاني 

                          الفهرس                                                               

قول الشهيد سيد قطب في الظلال ....................................2
المقدمة ...............................................................6
تناول العامي والأصولي لقضية الحكم على الناس .......................8
الواقع الليبي ........................................................ 10
ملاحظة هامة .......................................................13
تناول العامي ....................................................... 15
تناول الأصولي ..................................................... 18
قول الإمام عبد القاهر البغدادي .................................... 30
نكتة لطيفة ........................................................ 33
فائدة ...............................................................33
شبهات وإيضحات ................................................ 33
قولهم : أن قضية الحكم على الناس على ثلاثة مراتب ................ 34
قولهم : إننا نحكم بالظن والظن مذموم .............................. 35
قول الأمير الصنعاني في الظن ....................................... 36
قول القرطبي وابن العربي في الظن .................................. 39
قولهم : أن المعين في هذه الدار مستور الحال ........................ 42
قولهم : أن الحكم على الظاهر ..................................... 45
ردود سريعة ...................................................... 47
وأخيراً  ........................................................... 48
المراجــع ........................................................ 52



[1] ـ ولأن والله يعلم ذلك أن عقائد هذه الجماعات معروفة لدينا ظاهرة للعيان وهم يصرّحون بعقائدهم في كتبهم وأبحاثهم وأشرطة التسجيل التي يسجلونها ، وفي مواقع الشبكة العالمية للإتصالات ، وفي الصحف و والمجلات ، واللقآءت الشخصية والعامة ، والندوات والمحاضرات ..الخ  وكل هذا بين أيدينا ، بل ومتوافر حتى فى المكتبات العامة والخاصة .
[2] ـ راجع الموافقات للشاطبي ج3ص31 وما بعدها
{ ثم إن الألفاظ ترد في الأصل إلى معانيها لا إلى ذواتها وكلمة التوحيد هي أعظم كلمة تلفظ بها العبد والمراد معنى مادلت عليه لا مجرد لفظها .
[3] ـومن الأمثلة على ذلك بالنسبة للأصولي معرفته لقاعدة : مالا يتم الواجب إلاّبه فهو واجب ، وأعظم واجب هو التوحيد ، ولدا فمعرفة مالا يتم إلاّ به واجب، كمعرفة نواقضه ، ومعرفة الكفر بالطاغوت ، وتكفيره لمن عبده أو جادل عنه ..الخ ،فإذا كان واجب الصلاة لايتم إلاّ بالوضوء الصحيح فمعرفة أركان الوضوء ونواقضه واجبة، فما بالك بواجب التوحيد الذي هو آكد الفروض وأعظم الواجبا ت .
[4] ـ فتح البارئ لابن حجر العسقلاني ج8 شرح وتفسير قوله تعالى : ( ولاتقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً )
[5] ـ وهو لفظ أسلمت أو أنامسلم بالفارسية .
[6] ـ وهي الحادثة التي ذكرها الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله ثم ذكر الحوار الذي دار بين خالد بن الوليد رضي الله عنه ومجاعة بن ضرار ـ وكان أسيراً ـ وقول خالد له : لقد تكلم ثمامة فرد وأنكر ، وتكلم اليشكري  ...الخ  راجع الحادثة بطولها في رسالة النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك  من مجوعة التوحيد .
[7] ـ كتاب التوحيد  للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص29 .
[8] ـ سيرة ابن هشام ج1 ص250 .
[9] ـ  السابق ج 1 ص273 .
[10] ـ السابق ج 2 ص483
[11] ـ كالقاعدة التي ذكرها  الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات ج2 : ( الأمر الكلي إذا ثبت كلياً فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى القاعدة لايحزبه عن كونه كلياً ، وأيضاً فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي )
[12] ـ وكذلك يستعمل لفظ مجهول الحال في بعض الأحكام الشرعية ، مثل الأحكام الجنائية في الإسلام ، فتطلق تسمية مجهول الحال على المتهم الذي لم تثبت إدانته فيحبس حتى يتبين القاضي من أمره هل هو برئ أو مدان ؟ . وراجع في ذلك الطرق الحكمية للإمام ابن القيم فصل (المتهم المجهول الحال  ) .
[13] ـ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( لئلا يقول الناس أن محمداً يقتل أصحابه ) عن الذين لايعرفون واقع المنافقين ، والمراد بالناس الذين سمعوا بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا الإسلام  ، فيكون ذلك سبباً لنفرتهم من الدخول فيه . 

No hay comentarios:

Publicar un comentario