الفتوى والواقع
الحمد لله الذى إ ختار لنا الإسلام ديناً وآ زره وأظهره على الدين كله ، وآثره وجعله حصيناً ومنهاجاً مبيناً لايدرس مناره ولاتطمس آثاره . وصلى الله على محمد النبى المبعوث من أظهر المراتب والمختار من أطهر المناسب وعلى اله وصحبه ذوى السوابق([1]) والمناقب .
أما بعد .. فهذا البحث المختصر المتواضع عن حكم ( الفتوى والواقع ) قد جمعنا فيه بعض الأدلة حول هذه المسألة بما يسر الله لنا ، مع العلم أن هذه ليست هي كل الأدلة والنقولات ، فقد أفتى بها الكثير من العلماء على مر العصور ، ولكن لقلة المراجع الموجودة بين أيدينا حالياً ، وقلة من وضح هذه المسأئل من المعاصرين ، فقد إكتفينا بما يُفيد ويُرشد ، ونأمل إن شاء الله أن نزيد بعض الأدلة والفتاوى في أبحاث أخرى قادمة كلما وفق الله تعالى لذلك ...
وقد قسمنا هذه المسألة إلى قسمين - كتعريف - رئيسيين هما بمثابة المحور لها ، وهي ليست أصولاً نأصلها من عندنا ولكن بأدلة من القرآن والسنة وأقوال أهل العلم قديماً وحديثاً ، ولعل المتتبع لهذه النقولات سيلاحظ ذلك بإذن الله تعالى .
فالقسم الأول هو : بالعمل بالدليل والنظر في الواقع تتقرر الفتوى .
والثاني : الفتوى ترتبط بالغالب على الدار .
وقد تبين بعون الله تعالى أن كل من أفتى من أهل العلم والاجتهاد في هذا الصدد لابد وأن يتقيد بهذين المقامين ، وهو بالتالي يطبق أحكام الله ، لا بمجرد نظر عقلي، أو هوى نفسي، ولأن مصدر ذلك وأساسه هي الأدلة الشرعية وأصول أحكامها سواءً بأدلة صريحة، أو باستنباطاتها الفقهية حسبما يقتضيه المقام ..
وليعلم القاري الكريم أن للديار قسمين أو حكمين ؛ دار إسلام ودار كفر ، ودار الكفر لها أصل وفرع من حيث الأمان والحرب ، فقد تكون دار كفر محاربة للمسلمين فهذا أصلها ، وقد تكون دار كفر مهادنة للمسلمين ينعم فيها المسلم بالأمان من إقامة شعائر دينه ونحوها فهذا فرعها ، وفي الحالتين لا ينفك عنها وصف الكفر .. وشبيه من هذا التقسيم في دار الإسلام ؛ الأصل فيها هو علو الأحكام والغلبة ، والفرعي هو الخروج على الإمام وهم أهل البغي حيث لا يستقر المسلم فيها بالأمان من هذه الطائفة مثل صفة خروج الخوارج مثلاً ، وفي الحالتين لا ينفك عنها وصف دار الإسلام ([2]).
ثم إن للديار أربعة أوضاع :
· الأول : دار الإسلام والغالب على أهلها الإسلام .
à الثاني : دار الإسلام والغالب على أهلها الكفر .
à الثالث: دار الكفر والغالب على أهلها الإسلام .
· الرابع : دار الكفر والغالب على أهلها الكفر .
فأما الوضع الأول : كمجتمع المدينة - كنموذج مثالي - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من بعده من الصحابة الكرام وبعدهم ، أو أي مجتمع تكون فيه علو الأحكام والغلبة للمسلمين والغالب على أهله الإسلام .
أما الوضع الثاني : فهذا النوع من الديار تكون فيه علو الأحكام والغلبة للمسلمين ولكن أغلب أهلها لايزالون على كفرهم ، كأهل الذمة مثلاً من يهود أو نصارى أو حتى من المشركين ولم تتميز الصورة بعد لقرب العهد بغزو المسلمين لمثل هذه الدار ، ثم تكون المفاصلة بعد ذلك ؛ إن كان كتابى فالإسلام أو الجزية أو القتل ، وإن كان مشرك فالإسلام أو القتل .
وأما الوضع الثالث: فتكون فيه الغلبة أو علو الأحكام للكفار ، ولكن لايزال أغلب أهل الدار مسلمين كأن يكون الكفار حدثاء عهد بغزو دار الإسلام ولم يزل أهلها يقاتلون العدو ولم تتميز الغلبة لأي من الفريقين أو ظهور الكفار في أغلب الأحيان ، مثل ماحدث في غزو التتار لبلاد المسلمين على فترات من التاريخ أو الغزو الصليبى لبلاد الإسلام وإستيلائهم على بعضها مع بقاء ولاء أهلها للإسلام ومحاربتهم للكفار ، هنا تكون الدار مركبة ، ومثل هذه الحالة ماذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على دار ماردين في مجموع الفتاوي ، والله أعلم . وقد ضل بعض المعاصرين فظن أن ديارنا الحالية بمثل هذا النوع بل هي مثل الوضع الرابع كما سنبينه فيما يلي :
الوضع الرابع : ديار كفر والغالب على أهلها الكفر ( إلا من رحم الله ) وهذا هو ماسنعرضه خلال هذا البحث والغرض من ذلك جلاء هذا الأمر وبيانه لوضوح المسار .. حتى لايحدث الالتباس والخلط والتميع والضلال وحتى تكون الرؤية صافية بين سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين وأزالة اللفتات الخادعة من الشارات والعناوين .
ونسأل الله السميع العليم أن يجعل هذا العمل صواباً ولوجهه خالصاً على كتابه وسنة نبيه r ونهج علماء السلف الصالح رحمهم الله ، اللهم لاسهل إلا ماجعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى اللهم على نبينا محمداً وعلى آله وصحبه وسلم .
ـــــــــــــــــــ
أولاً: بالعمل بالدليل والنظر في الواقع تتقرر الفتوى
وسنبداء إن شاء الله بفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن حُكم التتار كما جاء في كتاب الفتاوى الكبرى رسالة الجهاد وهي من أشهر الفتاوى لابن تيمية عن حُكم قوم كافرين كانوا يدعون الإسلام ويُظهرون الشعائر .
فأجاب رحمه الله بقوله: نعم يجب قتال هؤلاء بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أئمة الإسلام وهذا مبني على أصلين:
أحدهما: المعرفة بحالهم.
والثاني : معرفة حكم الله في أمثالهم.
فأما الأول: فكل من باشر القوم يعلم حالهم، ومن لم يُباشرهم يعلم ذلك بما بلغه من الأخبار المتواترة وأخبار الصادقين.
والثاني : كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالهم بإتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين .
· يلاحظ هنا أن الإمام ابن تيمية رحمه الله اعتمد في إجراء حكمه على هؤلاء القوم على أصلين أساسيين: وهما النظر أولاً فيما عليه القوم من حال، ثم معرفة حكم الله تعالى بكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام في كل من كانت له مثل حالهم
- أي أن شيخ الإسلام شأنه شأن كل فقيه أو قاضى بل شأنه شأن كل عاقل - نظر أولاً في واقع هؤلاء القوم وفهمه فهماً جيداً ليعرف حقيقة ماهم عليه قبل أن يجرى عليهم حُكم الله ورسوله .
وإلا فإن عدم معرفة واقع القوم أو عدم الوعي والفهم لحقيقة هذا الواقع لا تختلف بتاتاً عن عدم معرفة حكم الله ورسوله في نفس الأمر أو عدم تطبيق حكم الله ورسوله من واقع الأمر ، وهذا مما يجب التفطن إليه جيدا .
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه :[ وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه . فكان من رد الشيخ تقى الدين : إذا رأيتمونى في ذلك الجانب - يقصد جانب التتار - وعلى رأسى مُصحف فاقتلونى, فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد ] البداية والنهاية ج 14.
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله عن الذين لم يعرفوا معنى الاستدلال الشرعي والعمل به وعلى الذين يهملون الواقع المحيط في تطبيق الفتوى: [ وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، هو مقام ضنك ومعترك صعب ، فرط فيه طائفة ، فعطلوا الحدود ، وضيعوا الحقوق ، وجرؤا أهل الفجور على الفساد ، جعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، فتحاج إلى غيرها ، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعاً ، إنها حق مطابق للواقع ، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع ولعمر الله إنها لم تنافي ما جاء به الرسول ، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم والذي أوجب لهم ذلك : نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع وتنـزيل أحدهما على الآخر ] الطرق الحكمية في السياسة الشرعية .
ويقول رحمه الله في موضع أخر من نفس الكتاب تحت عنوان ( فقه الحاكم ) : فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الإمارات ودلائل الحال ومعرفة شواهده ، وفي القرئان الحالية والمقالية كفقهه في كليات الأحكام ، أضاع حقوقاً كثيرة على أصحابها وحكم بما يعلم الناس بُطلانه لايشكون فيه إعتماداً منه على نوع ظاهر ، لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله .
· فهاهنا نوعان من الفقه لابُد للحاكم منهما : فقه في أحكام الحوادث الكلية
. وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس ، يُميز به بين الصادق والكاذب ، والمحق والمبطل ثم يطابق بين هذا وهذا . فيعطى الواقع حكمه من الواجب ، ولا يجعل الواجب مخالفاً للواقع ] .
Ø ويعلق المحقق في بداية هذه الرسالة بقوله: أما باب الشُبهات فهو المنزلق الوعر، إذ يشبه فيه الشيطان على الناس - وعلى الدعاة - أمر عقائدهم ومناهج نظرهم واستنباطهم، فيتمسكون بالخطاء معتقدين صحته، فيعضل الداء ويصعب الدواء . ودواء هذه الشبهات يكون بجلائها بأمرين معاً:
أولهما : صحة العلم بالأحكام الشرعية.
وثانيهما: صحة العلم بالواقع المحيط.
فإن من لم يعلم الحكم الشرعي، ثم حكم في واقعة محققة أمامه فهو مخطئ وإن أصاب لأنه متبع للهوى لا للدليل، قائل على الله بغير علم، ضال مضل.
كذلك فإن من تعلم الأحكام ثم غفل عن الحقائق الواقعة - أو لم يحقق الواقعة المعروضة عليه- لم يأمن أن يطبق حكماً آخر يسير به في طريق لا يؤدى إلى المراد، فكان أيضاً ضالاً مضلاً، لعدم اجتهاده بالواقعة، ففقد بذلك أجر المجتهد المخطئ ] هامش مقدمة رسالة حكم من بدل شرائع الإسلام لابن تيمية .
ولذلك لا يفتي أهل العلم إلا عملاً بالدليل الشرعي مع ربطه بالواقع المحيط مع مُراعاة كل منهما .. ولا يخالف ذلك إلا جاهلاً بالفقه وملابساته ومخالف لما كان عليه أهل العلم المعتبرين في الأمة.
قال الشافعي رحمه الله: [ ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته كانت موافقته للصواب- إن وافقه - من حيث لا يعرفه غير محمودة ، والله أعلم ، وكان بخطئه غير معذور، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطاء والصواب فيه ] الرسالة للشافعي .
وفي كتاب أعلام الموقعين للامام ابن القيم تحت عنوان : فصل في تغير الفتوى وإختلافها يحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات :[المثال الثاني :" أن النبى r نهي أن تقطع الأيدى في الغزو ". رواه أبو داود .
فهذا حد من حدود الله تعالى ، وقد نهي عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله - من تعطيله أو تأخيره - من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضباً، كما قاله عمر وأبو الدرداء وحُذيفة وغيرهم، وقد نص أحمد وإسحاق بن راهوية والأوزعي وغيرهم من علماء المسلمين على أن الحدود لا تقام في أرض العدو.. إلى أن يقول : وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة وقال أيضاً: قال الشيخ في المغني: وهذا اتفاق لم يظهر خِلافه.
المثال الثالث: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أسقط القطع في عام المجاعة ، قال السعدى : حدثنا هرون بن إسماعيل الخراز ، ثنا على بن المبارك ثنا يحيى بن أبى كثير حدثنى حسان بن زاهر أن ابن حدير حدثه عن عمر قال : لاتقطع اليد في عذق ولاعام سنة ، قال السعدى : سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال : العذق النخلة ، عام سنة المجاعة فقلت لأحمد : تقول به ؟ فقال : أي لعمرى ، قلت إن سرق في مجاعة لاتقطعه ؟ فقال: لا، إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة ] إعلام الموقعين جزء 3.
ويقول ابن القيم رحمه الله :[ سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول : مررت أنا وبعض أصحابي في زمان التتار بقوم منهم يشربون الخمر ، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم ].
وقال أيضاً رحمه الله: ولايتمكن المفتى ولاالحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ماوقع بالقرائن والإمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.
النوع الثاني : وهو فهم حكم الله الذى حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الأخر ] أعلام الموقعين عن رب العالمين .
قال الإمام الشاطبى رحمه الله :[ كل دليل شرعى مبنى على مقدمتين :
1- أحدهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم .
2- والأخر ترجع إلى نفس الحكم الشرعي .
فإذا شرع المكلف في تناول الخمر مثلاً قيل له أهذا خمر أم لا ؟ فلا بُد من النظر ([4])في كونه خمراً أو غير خمرا وهذا معنى تحقيق المناط فإذا وجد فيه إمارة الخمر وحقيقتها بنظر معتبر ، قال نعم هذا خمر فيقال له كل خمر حرام الإستعمال فيتجنبه ] الموافقات الجزء الثالث .
· وقال الإمام النووى رحمه الله في شرح صحيح مُسلم على الطائفة التى منعت الزكاة تأويلاً وهل يقاس هؤلاء بمن يمنعها تأويلاً فيمن بعدهم :[ فإن قيل كيف تأولت أمرالطائفة التى منعت على الوجه الذى ذهبت إليه وجعلتهم أهل بغى وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة وأمتنعوا من أدائها يكون حكمهم حُكم أهل البغى قُلنا لا فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم إنما عذروا لأسباب وأمور لايحدث مثلها في هذا الزمان منها قرب العهد بزمان الشريعة الذى كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ ، ومنها أن القوم كانوا جُهالاً بأمور الدين وكان عهدهم بالإسلام قريباً فدخلتهم الشبهة فعذروا .
فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام واشترك فيها العالم والجاهل فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله . ]
· وقد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد-ج2 قريباً من كلام النووي رحمهما الله قال : حكى عن عثمان بن منصور وعمرو بن معدىكرب إنهما كان يقولان الخمر مباحة ويحتجان بقوله تعالى ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ماأتقوا وأمنوا وعملوا الصالحات ) قالا قد آمتا وعملنا الصالحات فلاجناح علينا فيما طعمنا فلم تكفرهما الصحابة بهذا القول وسؤالهما الحكم في ذلك لأنه ؛ لم يكن قد ظهرت أحكام الشريعة في ذلك الوقت ظهوراً عاماً ولوقال بعض المسلمين في وقتنا هذا لكفرناه لأنه قد ظهر تحريم ذلك وسبب نزول الآية ماقاله الحسن لما نزل تحريم الخمر قالوا كيف بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم وقد أخبر الله إنها رجس فأنزل الله تعالى
:( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طعموا ) ..
وكذلك قد قيل في مانعى الزكاة أنهم على ضربين منهم من حكم بكفره ؛ وهم من آمن بمسيلمة وطليحة والعنسى . ومنهم من لم يحكم بكفره وهم من لم يؤمنوا بهم لكن منعوا الزكاة وتأولوا أنها كانت واجبة عليهم لأن النبى rكان يُصلى عليهم وكانت صلاته سكناً لهم ، قالوا وليس صلاة ابن أبى قحافة سكناً لنا فلم يحكم بكفرهم لأنه لم يكن قد إنتشرت أحكام الإسلام ولو منعها مانع في وقتنا حكم بكفره ] .
لاحظ قول الإمام النووى رحمه الله: "في زماننا" . وقوله : "في هذه الأزمان" . وقوله أيضاً :"فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام ". وأيضاً قوله : "في هذا الزمان" . يتبين لك إختلاف فتوى العلماء من زمان إلى زمان ، والذي سببه النظر إلى الأحوال السائدة واعتبارها أي تحقيق مناط الدليل و الحكم الشرعي قبل الإفتاء ..
وتأمل قول الإمام ابن القيم : "ولو منعها مانع في وقتنا حكم بكفره ".
يقول الدكتور محمد هراس في رده على محمد البهي في نقده
للوهابية في كتاب الحركة الوهابية عند عنوان : الجاهلية الأولى والجاهلية الثانية :
[ ثم يقول سعادته : " لأن زيارة القبور وإقامتها على وجه الأرض سوف لايُعيد الآن بحال وضع الوثنية العربية الأولى على عهد الدعوة الإسلامية ، ومن ثم لاوجه لخشية الشرك فضلا عن وقوعه ممن يُقيم القبر أو يزوره " ، فانظر إلى أي حد يتجاهل دكتورنا الواقع الملموس ، كإنه لايرى ولايسمع وكأنه يعيش لافي دنيا البشر التى لاتزال في قرنها العشرين - قرن الذرة والصاروخ تتمرغ في أوحال الوثنية على جميع صورها ومظاهرها .
.. والعجب أن يصدر هذا الكلام من رجل كان مسئولاً في يوم من الإيام ([5])عن تلك القبور الشاهقة التى تزخر بها القاهرة وغيرها من مدن مصر بل وقراها ، ويعرف جيداً مايرتكب عندها وحولها من أفانين الشرك ولوثات الوثنية مما ذكرنا آنفاً فهل يستطيع سعادته أن يدلنا على شى واحد كانت تفعله الوثنية العربية وليس موجوداً في تلك الجاهلية الثانية ؟! أم إن سعادته يعتبر هذه الأعمال وثنية إذا تقرب بها إلى اللات والعزى ومناة وهبل ، ولكنها تنقلب توحيداً إذا تقرب بها إلى المشايخ المقبورين !! ] .
ومن فقه الواقع ماذكره الإمام ابن القيم عن الإمام أحمد رحمهما الله :[ أن المسلم إذا إحتاج إلى التزوج بدار الحرب ، وخاف على نفسه الزنا عزل عن إمرأته ، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن ينشاء ولده كافراً ] إغاثة اللهفان لابن القيم .
ذكر الإمام ابن رجب الحنبلى رحمه الله في كتاب القواعد القاعدة159- عند قاعدة تعارض الأصل والظاهر بعض الأمثلة ومنها:[ إذا زنا من نشأ في دار الإسلام بين المسلمين وادعى الجهل بتحريم الزنا لم يقبل قوله ، لأن الظاهر يكذبه([6]) وإن كان الأصل عدم علمه بذلك ] .
وقال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمى في كتابه معارج القبول ج1 باب التمائم المعلقات عند قوله:[ وفي التمائم المعلقات إن تك آيات مبينات فالإختلاف واقع بين السلف ، فبعضهم أجازها والبعض كف .
ï ..فذكر جملة ممن أجازها إلى أن قال [ والبعض كف] أي منع ذلك وكرهه ولم يره جائزاً ، منهم عبد الله بن عكم وعبد الله بن عمر وعقبة بن عامر وعبدالله ابن مسعود وأصحابه كالأسود وعلقمة ومن بعدهم كاإبرهيم النخعى وغيرهم رحمهم الله تعالى .. ولاشك أن منع ذلك سد لذريعة الإعتقاد المحظور ، لاسيما في زماننا هذا فإنه إذا كرهه أكثر الصحابة والتابعين في ذلك العصور الشريفة المقدسة والإيمان في قلوبهم أكبر من الجبال فلأن يكره في وقتنا هذا وقت الفتن والمحن أولى وأجدر بذلك .] فتأمل قوله : " فلأن يكره في وقتنا هذا ... .
وهذا الإختلاف في التمائم المكتوبة بالقرآن والسنة كما هو مبين ، لا المكتوبة بالسحر والشعودة والشرك كما هو الحال في التمائم التي يستعملها أهل زمننا !!
وقال الشيخ أحمد شاكر في شرح عمدة التفاسير عند قوله تعالى:( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) المائدة .
قال الحافظ ابن كثير: فدل بمفهومه - مفهوم المخالفة - على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لايحل ...
قال الشيخ أحمد شاكر : هذا كله في طعام أهل الكتاب ، إذا كانوا أهل كتاب أما المنتسبون الآن للنصرانية واليهودية في أوربا وأمريكا وغيرهما - فنحن نقطع أنهم ليسوا أهل كتاب لأنهم كفروا بأديانهم ، وإن إصطنع بعضهم رسومها الظاهر فقط ([7])، فأكثرهم ملحدون لايؤمنون بالله ولابالأنبياء ، وكتبهم وأخبارهم بين أيدينا ، فهم قد خرجوا على كل دين ودانوا بالإباحية والتحلل من الأخلاق والأعراض ، فلا يجوز نكاح نسائهم لفقدانهم صفة أهل الكتاب على الحقيقة ولايجوز أكل طعامهم لذلك ، ولأن الثابت أنهم لايذبحون في بلادهم قط ، بل يرون الشرعي المعروف تعذيباً للحيوان أخزاهم الله ، ويقتلون الحيوان بطرق أخرى يزعمون أنها أرفق بالحيوان فكل اللحوم عندهم ميتة ، ولايجوز لمسلم أن يأكل منها ] حكم الجاهلية لأحمد شاكر .
ويقول الإمام الشوكانى في إحدى رسأئلة التى يحكم فيها بكفر غالب أهل اليمن في عصره وردتهم عن الإسلام مع أن ديارهم يومئذ إسلامية وحكم الله هو السارى عليهم ، ولكن وقٌع غالبية القوم في الكفر وبالأخص من جهة تركهم للصلاة يقول مثلاً :[ وقد صح عن معلم الشرائع r أنه قال ( ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة ) فالتارك للصلاة من الرعايا كافر ، وفي حكمه من فعلها وهو لايحسن فعلها من أذكارها وأركانها مالاتتم إلا به ؛ لأنه أخل بفرض عليه من أهم الفروض وواجب من آكد الواجبات وهو لايعلم مالاتصلح الصلاة إلا به مع إمكانه ووجود من يعرفه بهذه الصلاة ، وهي أهم أركان الإسلام الخمسة وآكدها ، وقد صار الأمر فيها عند الرعايا هكذا .. ثم يتلوها الصيام وغالب الرعايا لايصومون ، وإن صاموا ففي النادر من الأوقات وفي بعض الأحوال فربما لايكمل شهر رمضان صوماً إلا القليل ولاشك أن تارك الصيام على الوجه الذى يتركونه كافر .. ]أ . هـ
ويقول أيضاً في نفس الرسالة :[ منها : إنهم يتحاكمون إلى من لايعرف إلا الأحكام الطاغوتية في جميع الأمور التى تنوبهم وتعرض لهم من غير إنكار ، ولاحياء من الله ولامن عباده . ولايخافون من أحد ، بل قد يحكمون بذلك بين من يقدرون على الوصول إليهم من الرعايا وعلى من كان قريباً منهم.. إلى أن يقول: وهولاء جهادهم واجب وقتالهم متعين ، حتى يقبلوا أحكام الإسلام ويذعنوا لها ، ويحكمون بينهم بالشريعة المطهرة ، ويخرجون من جميع ماهم فيه من تحكيم الطواغيت الشيطانية ]الدواء العاجل في دفع العدوا الصائل
فمن تمسك بالواقع فقط دون النظر إلى الدليل الشرعي ([8]) فهذا لاشك في ضلاله وكفره كأهل العقل ( العقلانيين ) وأهل الكلام ( المتفلسفة ) الذين يقولون إن الواقع هو المسير للبشر ويجب أن يُساغ العلم على واقع البشر ومصالحهم ، أما أدلة الشرع فذلك زمان قد مضى عالج قضايا تختلف عن زماننا الحاضر !! وأشباه هذا الكلام تعالى الله عن قولهم .
· وأما من تمسك بفتوة أحد العلماء دون النظر إلى الواقع المحيط به فهذا قد يقع في الجهل البسيط أو المركب بحسبه ، ويورده ذلك إلى التيه ، ومن الظلم حمل كلام العلماء أو العالم في أحد القرون في واقعة معينة على زماننا الحاضر مع الإختلاف في تحقيق مناط الحكم وهو بالتعرف على واقع الأمر ، ويستدعي العلم بالأحوال السائدة ، كمن حمل قوله تعالى
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) وقول ابن عباس فيها إنها كفر دون كفر للخوارج في حق حكام بنوا أمية المسلمين فحمل أهل الكفر والضلال هذا القول على حُكام اليوم زاعمين أنهم أخذوا بالدليل الشرعي !! لكن دون تحقيق مناط الحكم وهو النظر إلى واقع القوم .
وقد تصدى الشيخ أحمد شاكر لأمثال هؤلاء بقوله :[ اللهم إنى أبرأ إليك من الضلالة . وبعد فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا ، قد تلمس المعذرة لأهل السُلطان في ترك الحكم بما أنزل الله في القضاء والأموال والأعراض والدماء بغير شريعة الله التى أنزلها في كتابه ، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام .
فلما وقف على هذين الخبرين - خبر ابن عباس وأبى مجلز للخوارج - اتخذها راياً يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ماأنزل الله ، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لانكفر الراضى بها والعامل عليها... إلى أن يقول: والذي نحن فيه([9]) اليوم هُو هجر لأحكام الله عامة بلا إستثناء ، وإيثار أحكام غير حُكمه في كتابه وسنة نبيه ، وتعطيل لكل مافي شريعة الله ، بل بلغ الأمر مبلغ الإحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله سبحانه وتعالى المنزلة وإدعا المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما أنزلت لزمان غير زماننا ، ولعلل وأسباب انقضت فسقطت الأحكام كُلها بانقضائها . ثم يقول : فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها ، وصرفها إلى غير معناها ([10]) رغبة في نصرة السلطان ، أو إحتيالاً على تسويغ الحكم بغير ماأنزل الله وفرض على عباده ، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد من أحكام الله أن يستتاب ، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله ، ورضى بتبديل الأحكام ، فحكم الكافر المصُر على كفره معروف لأهل هذا الدين ] ([11]) . فتأمل هذا القول المفيد .
وكوصف ـ من كفّر من يحكم أو يتحاكم إلى القوانين الوضعية ـ بالبدعة وأنهم خوارج ضالون كالذين كفّروا علي ومُعاوية ومن معهم من الصحابة y !!
فانظر يرحمك الله بعين الحق والعدل أهؤلاء الأشرار يقاسوا بأولئك الأبرار !!؟ فالصحابة عند دعوتهم للتحكيم كعلى ومُعاوية وعمر بن العاص وأبى موسى الأشعرى رضى الله عنهم أجمعين كانت ديارهم يومئذٍ ديار إسلام وحُكم الله وسنة رسوله r هي حُكمهم ومرجعهم ، والقائمين على أمر هذا الحكم مُسلمين وصحابة أبرار وبعضهم مذكوراً في أحاديث رسول الله r بالثناء والصلاح ومنهم من هو مبشر بالجنة وكلهم يسأوى أمة لو وزن بها وقد يُرجح عليها .
والذين كفّروهم ، كفروهم جهلاً وسوءِ تقدير ومغالاة ماأنزل الله بها من سُلطان وكل ذلك بسبب تأويلهم الخاطىء ؛ وهو اعتقادهم أن المتحاكمين رضوا بحكم الرجال وأعرضوا عن حكم الله سبحانه وتعالى .. راجع البداية والنهاية لاابن كثير و تلبيس إبليس لابن الجوزية ص 91- ومابعدها .
فالذين يُقيسون حُكام ومحكومين اليوم بالقوانين الوضعية على حال أولئك بالأمس ، فهؤلاء لم يعرفوا حتى العمل بالدليل الشرعي وكيف يستدل به فضلاً عن معرفة الواقع المحيط وتحقيق مناطه ، ونعوذ بالله من الخذلان والكفران بعد الإيمان .
وكذلك فإن الفتوة الشرعية إذا أتت في زمن ما ، فيجب أن ينظر العالم أو الفقيه في هذه الواقعة وهل يُقاس بها في زمانه وواقعه ، فإذا تساوت تلك الواقعة أو الفتوة في الحكم الشرعي وصحة العلم بالواقع المحيط وهو بالنظر إلى الأحوال السائدة فيعمل بها ، وإلا فلا تقاس في غير موقعها ومناطها .
>جاء في كتاب نيل الأوطار([12])للإمام الشوكانى رحمه الله تحت باب الكف وقت الإغارة عمن عنده شعار الإسلام * ثم سرد أحاديث الباب وهي :
1- عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوماً لم يغز حتى يُصبح فإذا سمع أذاناً أمسك وإذا لم يسمع أذاناً أغار بعد مايُصبح . رواه أحمد والبخارى ، وفي رواية كان يغير إذا طلع الفجر ، وكان يستمع الأذان ، فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار وسمع رجلاً يقول : الله أكبر الله أكبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطرة ثم قال : أشهد أن لاإله إلا الله ، فقال خرجت من النار . رواه أحمد ومُسلم والترميذى وصححه )
2- وعن عصام تامُزنى قال : كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا بعث السرية يقول إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم منادياً فلا تقتلوا أحداً . رواه الخمسة الأ النسائى ) إلى أن قال الشوكانى في الشرح قوله "إذا رأيتم مسجداً " فيه دليل على أن مجرد وجود المسجد في البلد كاف في الإستدلال به على إسلام أهله وأن لم يسمع منهم الأذان لأن النبى eكان يأمر سراياه بالإكتفاء بأحد الأمرين إما وجود مسجد أو سماع الأذان ] أ . هـ
فقوله هذا رحمه الله على واقع كانت تحكمه شريعة الله - أي زمن الشوكانى فما بالك بزمن رسول الله r والعرب أهل اللسان والفصيح ([13]) يعلمون مافي هذا الأذان من تكبير وتهليل وذكر إسم رسول الله e إقراراً به فقد كانوا أهل شرك وأوثان يعبدون مع الله أو من دونه الحجارة والأصنام ونحوها فكان وجود المسجد حينذاك والنداء بلآذان إقرار منهم بعبادة الله وحده والبراءة من الشرك ، وبالتالى ولائهم للدولة الإسلامية والخضوع لشريعة الله وأحكامه ، فكان المسلمين يكتفون بهذه القرائن على إسلام أهل الدار ، أما واقعنا اليوم فتسمع الآذان ليلاً ونهاراً ، وترى الشعائر الظاهرة ولكن اليوم ديارهم أصبحت دياركفر بالمفهوم الشرعي المنضبط بعلو الأحكام والغلبة لغير المسلمين وكذلك الغالب على أكثر الناس الشرك والكفر - إلا من رحم الله - فتجد من يعتقد في الأموات بنفع أو بضر ويتقرب إليهم بأبواع العبادات التى لاتجوز إلا لله ، وتجد من يحكم بغير شريعة الله سبحانه وتعالى ويتحاكم لغيرها في شئون حياتهم كلها ، وتجد من يوالى الحكام الكفرة المتربصين بالإسلام وأهله فيبايع لهم على الطاعة وينخرط في جيوشهم وأحزابهم ومجالسهم ومؤتمراتهم ...و...و... إلخ ، ولو حكمنا اليوم بمجرد الأذان أو وجود المساجد لحكمنا لجميع دول العالم بالإسلام بما في ذلك الهند منبع ديانات الوثنية لأن في الدولة الهندية الكثير من المساجد ، وكذلك روسيا منبع الإلحاد وشقيقاتها دول الصقالبة ، بلغاريا وبولندا ويوغسلافيا ورومانيا فكلها تتواجد بها المساجد وتسمع الأذان منها ليلاً ونهاراً وكذلك أسبانيا والتى كانت دار إسلام لعدة قرون ففيها المساجد إلى يومنا هذا وتسمع الأذان إلى الآن ناهيك عن الدول العربية المنتسبة إلى الإسلام اليوم .
قال سيد قطب رحمه الله في الضلال ص1057:[ والبشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات لاإله إلا الله بلا مدلول ولاواقع وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة لأنهم إرتدوا إلى عبادة العباد من بعد ماتبين لهم الهدى ومن بعد أن كانوا في دين الله ] .
وكذلك فعندما يرتد المسلم - والعياذ بالله - في دار الكفر أي مثل ديارنا الحالية والمسلمين بطبيعة حال الدار مستضعفين فلا يستطيعون والحالة هذه أن يقيموا عليه حد الردة إذ لايتسنى لأحد من المسلمين من إقامة الحد بمفرده لعدم غلبة الأحكام وعدم وجود الإمام أو نائبه والقاضى وأعوانه حتى تكون للحدود سلطة وإلزام وبالتالى فغياب السلطة الشرعية بغياب هؤلاء لايستطيع المسلم بمفرده إقامة الحدود - اللهم إلا زجر من إرتكب كفر أو معصية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي صورة جزئية محدودة - وهل معنى هذا أن المسلمين تهاونوا في إحكام الله أو عطلوها ، والدليل الشرعي يقول :" من بدل دينه
فاقتلوه " رواه البخاري . وقولهe: " لايحل دم أمرىٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزانى ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ." متفق عليه. ولكن تحقيق مناط الحكم وهو النظر إلى الواقع المحيط في هذه الحادثة - أي ردة المعين عن دينه - هو الذى أجبرهم على عدم إقامة الحد لأنهم تركوا العمل بالدليل الشرعي ، فلو تركوا الدليل الشرعي بتغييره مثلاً أو جحوده لكفروا ، وكذلك كان حال المسلمين من مهاجرى الحبشة عند ردة عبيد الله بن جحش ([14])، فما كان بيدهم شىء إلا الإعراض عنه وهذا لم يمنعهم من إلقاء الحكم الشرعي عليه لردته عن دين الإسلام ، أي الحكم عليه بالكفر دون قتله لعدم التمكن من ذلك وهذا من الجمع بين الدليل الشرعي وتحقيق مناط الحكم ، أي بالنظر إلى الواقع المحيط فلو كان واقع حالهم التمكين في ديار الإسلام لما تُرك على ردته دون أن يُقتل . فتأمل

1- الدليل الشرعي هو المقدم بعون الله في إجراء الأحكام مع مراعاة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر دون إهمال لكل من الطرفين ..
2- إن دين الله تعالى وشرعه قد إكتمل ولن يتغير إلى يوم القيامة ، وما رحل رسول الله e حتى تركه لنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك .. والمطلوب من أتباعه من بعده أن يفقهوا واقع كل حالة ويُنزلوا الدليل الشرعي المناسب لها .
3-ربط الدليل الشرعي بواقعه المناسب له للوصول للحكم الشرعي الصحيح ؛ هوما عليه علماء سلف الأمة وهو المنهج المقرر والمتبع عندهم في فتاويهم ([15])،
4- لايجوز أن يستحل إنسان شىء حرام أو يحرم حلال بدعوى تطور الزمان أو بتغير الأسماء !!
كالذين إستحلوا الخمر وسموها بغير إسمها ( مشروبات روحية ) ونحوها ، وعملوا لها المصانع والحانات ، فكل مسكر حرام مهما كان أسمه أو نوعه .. وكمن قال أن لحم الخنزير محرماً لعلة في لحمه فلوا أنشأنا له الحظائر الصحية وطبخ جيداً لزالت هذه العلة ...
هذا في أستحلال الحرام وأما في تحريم الحلال ؛ فيدخل في ذلك على سبيل المثال لاالحصر بعض القوانين التى تمنع من الزواج بأربع نساء أو تعدادهن ولوبأثنين والله أحل ذلك ، أو كالذين يمنعون المرأة من حقها في الميراث - في بعض القبائل العربية -أو من يحاولون مساواتها بالرجل بدعوى تحرير المرأة أو منع التجارة الحرة بدعوى إنها إستغلال للبشر والله يقول ( وأحل الله البيع )... وأشياء كثيرة ليس هنا موضع بسطها ولكن نكتفي بهذه الأمثلة .
وقد ذم الله سبحانه وتعالى اليهود والنصارى وكفرهم بقوله ( إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) لطاعتهم الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم ، وهومن خصائص ربوبية الله سبحانه وتعالى ، ولايحق حتى للرسلe إلا بأمر الله .
5- للضرورات في الشريعة أحكام خاصة قد تختلف عن الأحكام العادية ، والضرورات تقدر بقدرها ، ويزول الحكم الخاص بالضرورة عند زوالها([16]).. كحالات المضطر في مخمصة وخوف الهلاك وحالات الأسر والمرض ونحو ذلك .. كذلك أحكام الإكراه الشرعي المعتبر ([17])... فهذه الأحوال المحددة في الشريعة لها أحكام تختص بها .
6- قد تتغير الفتوى في حكم المكلف نفسه..كما جاء عن ابن عباس y ، أنه سئل عن توبة القاتل ، فقال لاتوبة له ، وسئل آخرى ، فقال : له توبة ، ثم قال : أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل ، فمنعته ، واما الثاني فجاء مستكيناً قد قتل فلم أقنطه ] ادب العالم والمتعلم للنووى .
>> وكذا إقامة الحد والقصاص من الواجبات الشرعية في دار الإسلام ، ولكن في واقع دار الحرب توقف إقامة الحد خوفا من الردة واللحوق بالكفار .. وكإبتداء الدعوة إلى التوحيد في واقع قوم أشركوا بالله ، والدعوة إلى الزكاة في واقع قوم منعوها أو كانوا بخلا .. وهكذا حتى في مسائل النصيحة والوعظ والإرشاد ؛ ينظر إلى واقع المخاطبين وماهو أفيد لهم فينصحوا به ..كتذكير الخائفين والمرجفين والجبناء بمواقف الشجاعة والقوة في سيرة الرسل والصحابة ... وتذكير الفقراء بالصبر ، والأغنياء بالشكر ، والمستكبرين بالتواضع.... الخ .
والله أعلم وأحكم وهو يهدى إلى سواء السبيل ..
وننتقل إلى الفصل الثاني : الفتوى ترتبط بالغالب على الدار :

وسنبداء بقصة أصحاب الكهف أولئك الفتية المؤمنين بالله تعالى كما جآت في كتاب الله ، وفيها العبرة ([18]) بالحكم الغالب على أهل الدار دون تحقق من حالهم فرداً فرداً
قال تعالى (هؤلاء قومنا إتخذوا من دونه ألهة ) بصيغة الجمع على ماكان عليه قومهم من الشرك بالله سبحانه وتعالى ، وقد كان أولئك الفتية يكتمون إيمانهم ولايعلم
بهم أحد - إلا الله وحده سبحانه وتعالى سواء من قومهم أم هم أنفسهم ، لانهم لم يبينوا إعتقادهم لبعضهم بعضاً إلا بقدر من الله سبحانه وتعالى وكان حكمهم قبل ذلك بالغالب على مافيه قومهم من الشرك بالله سبحانه وتعالى حتى كشف كل واحدا ًمنهم للآخر عن إيمانه بالله والبراءة مما عليه قومه ..
وإليك القصة كما جآت في تفسير الإمام ابن كثير رحمه الله : جاء في الحديث الذى رواه البخارى تعليقاً من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضى الله عنها قالت : قال e : الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها أئتلف وماتناكر منها إختلف . وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل عن إبى هريرة عن رسول الله e ، والناس يقولون : الجنسية علة الضم ، والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ماهو عليه عن أصحابه خوفاً منهم ، ولايدرى أنهم مثله حتى قال أحدهم : تعلمون والله ياقوم إنه ماأخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شئ ، فليظهر كل واحد منكم بأمره فقال آخر : أما أنا فإنى والله رأيت ماقومى عليه فعرفت أنه باطل ، وإنما الذى يستحق أن يعبد وحده ولايشرك به شيء هو الله الذى خلق السموات والأرض ومابينهما ، وقال الأخر : وأنا والله وقع لى كذلك ، وقال الأخر كذلك حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة فصاروا يداً واحدة ، وأخوان صدق ، فاتخذوا لهم معبداً يعبدون الله فيه ، فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وماهم عليه ، فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عز وجل ، ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: ( وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربُنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً ) ولن لنفي التأبيد أي لايقع منا هذا أبداً ، لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً ، ولهذا قال عنهم ( لقد قلنا إذا شططا ) أي باطلاً وكذباً وبهتاناً ( هؤلاء قومنا أتخذوا من دونه ألهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ) أي هلا أقاموا علىصحة ماذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً ] ا.هـ .
ويزيد هذه القصة وضوحاً في حكم الغالب على أهل الدار ، عند ماأراد هؤلاء الفتية المؤمنين أن يبعثوا أحدهم إلى المدينة التى كان فيها قومهم ليشتري لهم بعض الطعام بعد إستيقاظهم من رقدتهم الطويلة ، عند قوله تعالى مخبراً عنهم:( فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر إيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولايشعران بكم أحداً )
قال الإمام الشوكانى في فتح القديرعند تفسيره لهذه الأية قوله تعالى ( فلينظر أيها أزكى طعاماً ) واستدل بالآية على حل ذبائح أهل الكتاب لأن عامة أهل المدينة كانوا كفاراً وفيهم قوم يخفون إيمانهم ] .
وقال القرطبى رحمه الله عند قوله تعالى ( فلينظر أيها أزكى طعاماً ) قال ابن عباس : أحل ذبيحة لأن أهل بلدهم كانوا يذبحون على إسم الصنم : وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم . ابن عباس : كان عامتهم مجوساً ] .
وقال العلامة الشنقيطى في أضوا البيان في تفسيره لهذه الآية الكريمة : وقد قال بعض العلماء : إن عهدهم بالمدينة فيها مؤمنون يخفون إيمانهم ، وكافرون . وإنهم يريدون الشراء من طعام المؤمنين دون الكافرين وأن ذلك مرادهم بالزكاة في قوله تعالى ( أزكى طعاماً) وقيل كان فيهم أهل كتاب ومجوس والعلم عند الله سبحانه وتعالى ] .
يقول ابن رجب الحنبلى رحمه الله : روى عبد الرازق بإسناده عن ابن مسعود t أنه قال لمن نزل من المسلمين بفارس إذا إشتريتم لحماً فاسئلوا فإن كان ذبيحة يهودى أو نصراني فكلوا ، وهذا لأن الغالب على أهل فارس المجوس وذبائحهم محرمة ] أ . هـ . القواعد .
وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في الفقه المستفاد من غزوة خيبر : وأستباح رسول الله e سبى نسأئهم وذراريهم وجعل نقض العهد سارياً في حق النساء والذرية ، وجعل حكم الساكت والمقر حكم الناقض والمحارب - وهذا كوجب هديه e في أهل الذمة بعد الجزية أيضاً - أن يسرى نقض العهد في ذريتهم ونسأئهم([19]) ، ولكن إذا كان الناقضون طائفة لهم شوكة ومنعة ، أما إذا كان الناقض واحداً من طائفة لم يوافقه بقيتهم ، فهذا لايسرى إلى زوجته وأولاده كما أن من أهدر النبى e دمائهم ممن كان يسبه ، لم يسب نسأئهم وذريتهم ، فهذا هدية في هذا ، وهو الذى لامحيد عنه وبالله التوفيق ] أ . هـ مختصراً
وقال أيضاً في حكم يهود بنو قريظة بعد نقضهم العهد : وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول ، وهرب عمرو بن سعد ([20])، فانطلق فلم يُعلم أين ذهب ، وكان قد أبى الدخول معهم في نقض العهد ، فلما حكم فيهم بذلك أمر رسول الله e بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم ، ومن لم ينبت ألحق بالذرية ، فحفر لهم خنادق في سوق المدينة ، وضربت أعناقهم ] أ.هـ مختصراً .
يقول الأمام ابن تيمية رحمه الله :[ وكون الأرض دار كفر أو دار إيمان أو دار فاسقين .. ليست صفة لازمة لها ، بل هي صفة عارضة بحسب سُكانها ؛ فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون ، هي دار أولياء الله في ذلك الوقت ، وكل أرض سكانها الكفار فهي دار كفر في ذلك الوقت ، وكل أرض سكانها الفُساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت ، فإن سكنها غير ماذكرنا وتبدلت بغيرهم فهي دارهم .. وكذلك المسجد إذا تبدل بخمارة أو صار دار فسوق أو دار ظلم أو كنيسة يشرك فيها بالله ، كان بحسب سكانه .. وكذلك دار الخمر والفسوق ونحوها إذا جعلت مسجداً يعبد الله فيه عز وجل كان بحسب ذلك .. وكذلك الرجل الصالح يصير فاسقاً ، والكافر يصير مؤمنا ، أو المؤمن يصير كافر أو نحو ذلك .. كل بحسب إنـتـقـال الأحوال من حال إلى حال .. وقد قال تعالى :( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة..)الآية. نزلت في مكة لما كانت دار كفر وهي مازالت في نفسها خير أرض الله وأحب أرض الله إليه ، وإنما أراد سكانها ..
وقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام :( سأوريكم دار الفاسقين ) وهي الدار التى كان بها أولئك العمالقه ، ثم صارت بعد هذا دار المؤمنين وهي الدار التى دل عليها القرآن من الأرض المقدسه ، أرض مصر التى أورثها الله بنى اسرائيل ، ..
.. فأحوال البلاد كأحوال العباد ، فيكون الرجل تارة مسلماً وتارة كافراً ، وتارة مؤمناً وتارة منافقاً ، وتارة بِراً تقياً وتارة فاسقا ، وتارة فاجراً شقياً .. وهكذا المساكن بحسب سُكانها ، فهجرة الأنسان من مكان الكفر والمعاصى إلى مكان الإيمان والطاعة ، كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة ..وهذا أمر باقي إلى يوم القيامة ، والله تعالى يقول:( والذين امنوا وهاجروا وجاهدوا معكم فاؤلئك منكم) ][مجموع الفتاوى ـ ج18]
وجاء في صحيح البخارى عن أبى بردة عن أبى موسى قال : قدمت المدينة فلقيت عبد الله ابن سلام فقال لى : إنك بإرض الربا فيها فاش ، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن ، أو حمل شعير ، أو حمل قت ، فلا تأخذه فإنه ربا..] إغاثة اللهفان لابن القيم ج 1 ..فانظر إلى فتوى هذا الصحابى رضى الله عنه حكم بغالب ماكان فاش في المدينة من الربا على الجميع .
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرىج4:[ أما المرتدون عن الشرائع من التتار فهم فئة غير الفئتين ، وإنما هم كمانعى الزكاة رداً لأمر الله ، وإباء من قبول الشرائع وإمتناعاً عن التسليم ، فهؤلاء لم يكن لهم حال بعد تلفظهم بالشهادتين قبلوا فيها حكم الله بل هم على شرع أبائهم منذ تلفظهم فلذلك عدهم كفاراً أصليين ، وعد من لحق بهم من العرب والفرس مرتدين ، وهؤلاء لامناص من قتالهم أما من أكرهوه على القتال في صفوفهم فقد قال كما هو معروف من أقوال العلماء أن لاتقية في القتل وأن المكره - كما جاء في أقوال الفقهاء - على القتل وهو المباشر يعاقب في الدنيا والأخرة ، وإذا كان ثمة من اختلط بصفوفهم ممن ليس منهم فحيث إن الله سبحانه وتعالى لم يميز وهو القادر على تمييز بين من يغزو الكعبة ومن إختلط فيهم - لحظة الهلاك - من أسواقهم ومن ليس منهم وأهلكهم جميعاً ثم يبعثون على نياتهم - كما جاء في الحديث - فإن المؤمن لايطالبه الشرع بتمييز ]. أ . هـ
وقال النووى رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم ج1 ، فيمن امتنع عن الزكاة تأويلاً لاجحوداً :[ فإما مانعى الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغى ولم يسموا على الإنفراد منهم كفاراً وأن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض مامنعوه من حقوق الدين وذلك أن الردة أسم لغوى ([21]) وكل من انصرف عن أمر كان مقبلاً عليه فقد أرتد عنه وقد وجد من هؤلاء القوم الإنصراف عن الطاعة ومنع الحق وانقطع عنهم إسم الثناء والمدح بالدين ، وعلق بهم الإسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان إرتدادهم حقاً ] إنتهي مختصراً .
وقال الشاذلى في كتابه حد الإسلام:[ هدى أبى بكر رضى الله عنه في قتال مانعى الزكاة : أما من منعها بخلاً وتهرباً من غير قتال ولابغى ففي الأثار أنه يعاقب بأخذ شطر ماله ولما كان الغالب هو الإباء من قبول الفرائض والإمتناع عن التسليم أجرى عليهم أبوبكر رضى الله عنه حكم الدار واستعمل فيهم مايستعمل في المرتدين ، من غير تحقق لموافقتهم فرداً فرداً ؛ لأن ذلك فيه توقيف الأحكام الشرعية وجريانها على مستحيلات وفي ذلك تعطيل لها ، ثم بعد الإسار تبين إختلاف مواقفهم وهذا هو هدى رسول الله e في الفرق بين وضع الدار ووضع الأفراد ] . أ . هـ
وكذلك كان موقف العلماء في فتواهم في بنوعبيد القداح عند مخالفتهم للشريعة وإظهار الشرك في دارهم.. جاء في مختصر سيرة الرسول e للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قال:[ فإنهم ظهروا على رأس المائة الثالثة فادعى عبيد الله : أنه من آل على بن أبى طالب ، من ذرية فاطمة ، وتزيى بزى أهل الطاعة والجهاد في سبيل الله ، فتبعه أقوام من البربر من أهل المغرب ، وصار له دولة كبيرة في المغرب ولآولاده من بعده .
ثم ملكوا مصر والشام ، وأظهروا شرائع الإسلام ، وإقامة الجمعة والجماعة ، ونصبوا القضاة والمفتيين ، لكن أظهروا الشرك ومخالفة الشريعة ، وظهر منهم مايدل على نفاقهم وشدة كفرهم فأجمع أهل العلم أنهم كفار ، وأن دارهم دار حرب ، مع إظهار شعائر الإسلام .. وفي مصر من العلماء والعباد أناس كثير ، واكثر أهل مصر لم يدخل معهم فيما أحدثوا من الكفر ، ومع ذلك أجمع العلماء على ماذكرناه ، حتى أن أكابر أهل العلم المعروفين بالصلاح قال : لو أن معى عشرة أسهم لرميت بواحد النصارى المحاربين ورميت بالتسعة بنى عبيد .
وقال ابن تيمية رحمه الله عند حكايته عن عثمان بن مرزوق رحمه الله:[ ولما قدم أبو عمر وعثمان بن مرزوق إلى ديار مصر - وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع وكانوا باطنية ملاحدة ، وكان بسبب ذلك كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية - أمر أصحابه أن لايصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك ، ثم بعد موته فتحها ملوك السنة قبل صلاح الدين وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة ، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر ] إنتهي ([22])
وقال شخ الإسلام ابن تيمية في صدد كلامه عن التتار :[ وقد شاهدنا عسكر القوم فرأينا جمهورهم لايصلون ، ولم نر في عسكرهم مؤذناً ولا إماماً وقد أخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم مالايعلمه إلا الله ، ولم يكن معهم في دولتهم إلا من كان من شر الخلق : إما زنديق منافق لايعتقد دين الإسلام في الباطن ، وإما من هو شر أهل البدع كالرافضة والجهمية والإتحادية ونحوهم ، وإما من هو من أفجر الناس أو أفسقهم . وهم في بلادهم مع تمكنهم لايحجون البيت العتيق ، وإن كان فيهم من يصلى ويصوم فليس الغالب عليهم إقام الصلاة ولاإيتاء الزكاة ..
وحين أشكل حكمهم على بعض الناس في عصر ابن تيمية رحمه الله فقد كان الغالب عليهم الكفر برغم نطقهم بالشهادتين وإظهارهم للشعائر ، فسئل في ذلك فكان من رده رحمه الله - وبعد أن أوضح حكم هذه الطائفة مجتمعة ، بين حكم المعين فيها حسماً لهذا الأمر - : لو رأئيتمونى في ذلك الجانب - يقصد جانب التتار - وعلى رأسى مصحف فاقتلونى ، فتشجع الناس وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد ] ([23])إنتهي ملخصاً . حكم من بدل شرائع الإسلام .
ومقصد شيخ الإسلام رحمه الله الواضح ؛ أي أننى أنا معين من الناس وأبلغ من ذلك أنى معروف تقريباً لدى الجميع ، فلوكنت مع هؤلاء الكفار أكثر سوادهم فأنا كافر مثلهم فاقتلونى ولو كنت أحمل فوق رأسي مصحفاً وهو من أظهر شعائر الإسلام وأصل أصولها .
قال الإمام ابن القيم في كتاب الصلاة : [ وكذا يقال لمن إرتكب محرماً إنه فعل فسوقاً بذلك المحرم ، ولايلزمه إسم فاسق إلا بغلبة ذلك عليه ] .
والمتأمل في موقف : خالد بن الوليد رضى الله عنه وحواره مع : مجاعة : وأنه حكم عليه بحكم غالب قومه : بنو حنيفة وردتهم عن الإسلام باتباعهم لمسيلمة الكذاب لعنه الله ، وقد بين مجاعة براءته من نبوة مسيلمة وإنه لم يتبعه على ذلك ، ولكن خالد رضى الله عنه لم يعتبرقوله في بادى الأمر لأنه كان مع قومه يكثر سوادهم ، فإما أن يخرج عنهم ويكفرهم ، والأ فهو مثلهم ولاإعتبار لإنكار القلب فقط ، ثم عفي عنه خالد وحسن إسلامه وإليك القصة كما جاءت في رسالة النجاة والفكاك من موالآة المرتدين وأهل الإشراك للشيخ حمد بن عتيق في مجموعة التوحيد ، قال رحمه الله : لما سار خالد بن الوليد إلى اليمامة لقتال المرتدين بعث قبله مائتى فارس ، وقال من أصبتم من الناس فخذوه ، فأخذوا ( مجاعة ) في ثلاثة وعشرين رجلاً من قومه فلما وصلوا إلى خالد قال له : ياخالد ، لقد علمت أنى قدمت على رسول الله r في حياته فبايعته على الإسلام وأنا اليوم على ماكنت عليه أمس ، فإن يك كاذباً قد خرج فينا فإن الله تعالى يقول ( ولاتزر وازرة وزرأخرى ) .
فقال خالد : يامجاعة تركت اليوم ماكنت عليه أمس وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك عنه وأنت أعز أهل اليمامة ، وقد بلغك مسيرى إقراراً له ورضاء بما جاء به ، فهلا أبديت عذراً وتكلمت فيمن تكلم ؟ فقد تكلم ثمامة فرد وأنكر ، وتكلم اليشكرى . فإن قلت أخاف قومى فهلا عمدت إلى أو بعثت إلى رسولا ؟ فقال إن رأيت باابن المغيرة أن تعفوا عن هذا كله ؟ فقال خالد : قد عفوت عن دمك ، ولكن في نفسى حرج من تركك ]
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله : ( الأمر الكلي إذا ثبت كليا فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يُحزبه عن كونه كلياً ، وأيضا فان الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي ) الموافقات ج 2 .

سنذكر الآن إن شاء الله أقوال متفرقة وفتاوى للعلماء في حكم الغالب في الأحكام والنيات والعوائد :
قال ابن حجر في فتح البارىج13 عند ذكره لخبر الآحاد :[ ومن حيث النظر إن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث لتبليغ الأحكام وصدق خبر الواحد ممكن ، فيجب العمل به إحتياطاً ، وأن إصابة الظن بخبر الصدوق غالبة ، ووقوع الخطاء فيه نادر فلا تترك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة ] إنتهي .
وقد قال رب العزة عن الفتية المؤمنين من أصحاب الكهف لما أرادوا من أحدهم شراء بعض الطعام بعد رقدتهم الطويلة ، والمقصود بالطعام اللحم كما سيأتى قال تعالى: ( فلينظر([24]) أيها أزكى طعاماً ) أي فليتحقق من طعام أهل المدينة ولايشترى إلا من طعام المسلمين أمثالنا ، لأن المدينة الغالب على أهلها الكفركما ذكر المفسرين .
* ونذكر هنا فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ، لتوضيح مانحن فيه من تبين معتقد الأفراد عند غلبة الكفر أو البدع على الدار ، - قال في ( باب الذكاة ) فصل - لابد من صحة معتقد المذكى - [ يشترط في القصاب فاضل الدين أن يكون مسلماً صحيح المعتقد ينكر الخرافات كعبادة القبور وغيرها مما يعبد من دون الله . وينكر جميع المعتقدات والبدع الكفرية كمعتقد القادينية والرافضة الواثنية وغيرها . ولا يكتفي في حل ذبيحته بمجرد الإنتساب إلى الإسلام والنطق بالشهادتين وفعل الصلاة وغيرها من أركان الإسلام مع عدم الشروط التى ذكرناها .
فإن كثيراً من الناس ينتسبون إلى الإسلام وينطقون بالشهادتين ويؤدون أركان الإسلام الظاهرة ولايكتفي بذلك في الحكم بإسلامهم ولاتحل ذكاتهم لشركهم بالله في العبادة بدعاء الأنبياء والصالحين والإستغاثة بهم وغير ذلك من أسباب الردة عن الإسلام . وهذا التفريق بين المنتسبين إلى الإسلام أمر معلوم بلأدلة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها .
ثم ماذكرنا من الأمور المطلوبة في هذا القصاب ، يعتبرفي تبوثها ، نقل عدل ثقة يعلم حقيقة ذلك من هذا الرجل وينقله الثقة عن هذا العدل حتى يصل إلى من يثبت لديه ذلك حكماً ممن يعتمد على ثبوته عنده شرعاً ] فتاوى الشيخ ج12 / و عقيدة الموحدين .
ويقول الإمام ابن القيم :[ فهكذا ينبغى الإعتماد في رواية الفاسق وشهادته ، وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم ، بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحرى وفسقه من جهات أخرى ، فمثل هذا لايرد خبره ولاشهادته ، ولوردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق ، وبطل كثير من الأخبار الصحيحة ، ولاسيما من فسقه من جهة الكذب فإن كثر منه وتكرر ، بحيث يغلب كذبه على صدقه ، فهذا لايقبل خبره ولاشهادته ، وإن ندر منه مرة أو مرتين ففي رد شهادته وخبره بذلك قولان للعلماء ، وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله ] إنتهي مختصراً من المدارج ج1.
ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :[ وإنما الواجب عليهم - أي الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر - القيام بالواجب من الأمر والنهي وترك المحظور ، والقيام بالواجب وترك المحظور متلازم ، لكون نفوسهم لاتطاوعهم إلا على فعلها جميعاً ، مثل كثير ممن يحب الرياسة ، أو المال ، أو شهوات الغى ، فإذا فعل ماوجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ونحو ذلك .. فلا بد أن يفعل معهما شيئاً من المحظورات ، فالواجب عليه حينئذ أن ينظر أغلب الأمرين ، فإن كان المأمور أعظم أجراً من ترك المحظور ، لم يترك ذلك لما يخاف من أن يقترن به ماهو دونه في المفسدة ] أنتهي .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله عند حديثه على أقسام النفوس في إغاثة اللهفان :[ والنفس قد تكون تارة أمارة ، وتارة لوامة ، وتارة مطمئنة ، بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا . والحكم للغالب عليها من أحوالها ] .
وقال ابن قدامة رحمه الله في مختصر منهاج القاصدين : [ وأعلم : أن قول القائل : أيما أفضل الخوف ، أو الرجاء ؟ كقوله : أيما أفضل الخبز أو الماء ؟ وجوابه : أن يقال الخبز للجائع أفضل ، والماء للعطشان أفضل ، فإن اجتمعا ، نظر إلى الأغلب ، فإن استويا فهما متساويان ، والخوف والرجاء دواء ان يداوى بهما القلوب ، ففضلهما بحسب الداء الموجود ، فإن كان الغالب على القلب الأمن من مكر الله فالخوف أفضل ، وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية ، وإن عليه اليأس والقنوط فالرجاء أفضل .. ويجوز أن يقال مطلقاً : الخوف أفضل ، كما يقال : الخبز أفضل من السنكجبين لأن الخبز يعالج به مرض الجوع ، والسكنجبين يعالج به مرض الصفراء ، ومرض الجوع أغلب وأكثر فالحاجة إلى الخبز أكثر فهو أفضل لهذا الإعتبار لإن المعاصى والإغترار من الخلق أغلب ] .
وفي سنن ابن ماجة من حديث أبى أمامة مرفوعاً ( الماء لاينجسه شى إلا ماغلب على ريحه أو طعمه ، أو لونه ) إغاثة اللهفان لابن القيم ج1................... .
الخلاصة..
1- أن الحكم المعتبر هو بالغالب ولا يعتد بالأقلية ولا بالشاذ، كما تبين من قصة أصحاب الكهف وغيرها، وكما في حكم رسول الله r على يهود خيبر وبنو قريظة ومانعي الزكاة في عهد أبوبكر الصديق t، وكما هو مقرر في أصول الفقه .
2- يعبر عن الغالب أو الكثرة بالكلية ، كما تبين في فتوى التتار وبنو عبيد القداح وغيرهم ، وقد قال الإمام النسفي رحمه الله في التفسير عند قوله تعالى ( ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها ) قال:[ تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الغفير ، فعبر عن الكثرة بالكلية]ج4.
3- الحكم بالغالب يشمل الأفراد مجتمعين ومنفردين ، فكما إننا حكمنا على أي مجتمع بحكم غالب ماهو عليه من الإسلام أو الكفر ، فهذا الحكم يسرى على الأفراد كذلك لأنهم جزء من هذا المجتمع - اللهم إلا من قال من الفقهاء في حكم اللقيط في دار الحرب وأنه ينسب إلى من كان فيها من المسلمين ولو نفر واحد على خلاف في ذلك -
3- لايمنع ذلك من التبين من الأفراد في مثل هذه الأوضاع ، أي الحكم عموماً بحكم الغالب ثم التحقيق ممن ظهرت منه بعض القرائن الدالة على إسلامه أو برائته من معتقده الباطل ، وذلك لإستبانة سبيل المؤمنين وموالااتهم وسبيل المجرمين والبراءة منهم .
4- أغلب أقوال أهل العلم من السلف عن الحكم بالإسلام بفعل الصلاة أو ظهور الشعائر أو التلفظ بالشهادتين ، من الأفراد أو الجماعات ، إنما ذلك حيث لم يشتهر عليهم أو يعلم عنهم أنهم نقضوا إسلامهم في جانب آخر من جوانب الدين ...([25])
وهكذا حتى في البدعة والمبتدعين كما جاء في رسالة ابن تيمية رحمه الله المسماة بقاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصى ومشاركتهم في الصلاة الجماعة وبرغم ذلك فكان بعض العلماء لايصلى إلا خلف من يعرفه ؛ كما جاء في نفس الرسالة عن عثمان بن مرزوق والإمام أحمد وقوله بالآستحباب كما ذكرنا .. مع أن المبتدع دون المشرك في ميزان الشرع المطهر .
وكذلك حتى في مرتكب الكبائر يسمى مسلما ولايسمى مؤمنا ، كما قال الإمام أحمد رحمه الله - وأن كان يصلى ويصوم ويفعل كثيرا من الأعمال الصالحة - .
وأما قول بعض العلماء والفقهاء في الحكم على من أظهر الشعائر بالإسلام في دار الحرب كماجاء في كتاب المغنى لابن قدامة ، والقواعد في الفقه الإسلامى . لابن رجب الحنبلى وغيرها من مصنفات الفقهاء رحمهم الله ، فقد كان واقعهم يختلف تماماً عن واقعنا المعاصر ..
وديار الإسلام يومها من حدود بخارى وسمرقند ، إلى الأندلس غرباً بالإضافة إلى بعض الجزر كجزيرة قبرص وكريت ، وكان للإسلام يومها عزة ومنعة وغلبة على الكافرين وأحكام الشريعة قائمة على الجميع . وكانت أحكام الردة قائمة منفذة وواضحة ، فمن يظهر منه ناقض _ فرد أو جماعة _ يحكم عليه بالردة وتنفذ أحكامها فيهم .
وقد كانت ديار الكفر يومها والتى لم تفتح من قبل المسلمين - كالصين وجزر اليابان وسيلان وبعض دول أوربا ، وأهلها إما مجوس أوكتابيين من يهود أو نصارى - والمسلمين كانوا يدخلوا لهذه الديار لبعض المعاملات مع أهلها كالتجارة ونحوها ولغرض الدعوة أيضاً ، فعندما يظهر المسلمين الشعائر والقرائن الدالة على إسلامهم فيعرفوا بأنهم مسلمين لأن أهل تلك الديار لايقومون بهذه الشعائر على نحو مايفعله المسلمين .
أما اليوم فتظهر عليهم الشعائر والعلامات والغالب عليهم الكفر من نواحى أخرى ؛كالحاكمية والولاء لغير الله والإعتقاد في الأموات بنفع أو ضر وطاعة الطواغيت المشرعين من دون الله تعالى...الخ
5- خلافنا مع الناس اليوم لم يكن بلفظ الشهادتين أو إقامة الصلاة والشعائر .. حتى نحكم بإسلام من إقتصر على ذلك منهم ، فأغلب أهل الديار اليوم يقومون بها ولكن خلافنا معهم في الإيمان بالله والكفر بالطاغوت وتوابع هذا الأصل والذي خُلقت من أجله السموات والأرض .
كان الناس في الماضى سواء من العرب أو العجم عندما يعلنوا إسلامهم وينطقوا بالشهادتين ويقوموا بالشعائر في المجتمعات المسلمة يومها ؛ يكون بالتالى ولأوهم للمسلمين وتحاكمهم بالطبيعى لشريعة الله ، وانتمائهم للدار المسلمة التى تجاهد الكفار والمشركين ومن يرتد يقام عليه حكم الله .. لأن الغلبة للمسلمين وشريعة الله هي المهيمنة على الجميع .
أما اليوم فتجد أكثر الناس يتلفظون بالشهادتين ويُظهرون ، وتجده يوالى الكفار والطغاة وينخرط في جيوشهم وأحزابهم وبرلمناتهم ومؤتمراتهم ويبايع لهم على الطاعة ، ويتحاكم ويُحكم بغير شريعة الله ، ويتقبل التحليل والتحريم من الطواغيت المشرعين لهم ومن تقاليد أباؤه وعاداتهم ، فهذا حال أغلب الناس اليوم إلا مارحم الله ، وهذا واقع لاينكره من عاش في ديار اليوم إلا من أراد تحريف الكلم عن مواضعه ...!! ونسأل الله تعالى أن يُبدل هذا الحال إلى ماكان عليه الأولين من السلف الصالح ، ويهدي قومنا إلى الدين القويم والصرط المستقيم
نظرة إلى الجاهلية المعاصرة
أضافت المجتمعات الحديثة - أفراداً وجماعات - إلى سمات الجاهلية من الشرك والكفر مااستحقت به السبق على سائر الجاهليات السابقة وهي شركيات وجاهليات وكفريات لاينكرها إلا جاحد وليس جاهل فمن ذلك - على سبيل المثال لا الحصر([26]) :
1- إتخاذ الأنداد مع الله عز وجل في الشعائر والنسك ؛ ولاأدل على ذلك من هذه الأوثان والأنصاب والأضرحة المعظمة من دون الله والتى يبذل لها من الذبح والنذر والطواف والتعظيم والخوف والرجاء مالايجوز إلا لله عز وجل .
2- أتخاذ الأنداد مع الله عز وجل في الحكم والتشريع من دون الله حتى أنه قد نصبت المجالس المتخصصة في إفراز ، وسن القوانين المخالفة لشريعة الله وأحكامها ضاربين بهذه الشريعة عرض الحائط لعدم موافقها لأهوائهم فاستبدلوا بها قوانين اليهود والنصارى والملاحدة والله تعالى يقول ( ولئن أطعتموهم إنكم لمشركون ) (2) ويقول عز من قال ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) (3)
3-إستحلال ماحرم الله عز وجل بالبينات القاطعات والتى يعلمها عن شريعة الإسلام اليهود والنصارى والمجوس فضلاً عمن يدعى الإسلام كالربا والخمر والزنا والتبرج .
ثم فرضت الحماية على ممارسة هذه الفواحش جهاراً نهاراً وفرض الإضطهاد على المتمسك بالشريعة على نحو ماقاله سلفهم القديم : ( أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) (4)
4- أن الولاء إنحراف عن وجهته الشرعية والتى ينبغى أن يكون عليها لله ورسوله وللمؤمنين ليصبح ولاء لليهود والنصارى ولمعانى كثيرة ليس منها أبداً رابطة العقيدة .
وأصبحت مسألة البراء من الشرك والمشركين وهي الركن الركين لعقيدة التوحيد من المعالم المندرسة والتى لامكان لها في واقع من يدعى الإسلام اليوم .
والله يقول ( ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا أباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ) ، ويقول تعالى ( ولوكانوا يؤمنون بالله والنبي وماأنزل إليه مااتخذوهم أولياء ولكن كثير منهم فاسقون)
5- السحر والسحرة واللجوء إليهم ، والإعتقاد فيهم أصبح هو الملجاء والملاذ عند الكثرة الغالبة من أهل القرى والمدن وذلك في مواجهة المحن والمرض وطلب الحاجات وهو أمر مشهور معلوم لكل من له أدنى معرفة بحال البلاد ، والله سبحانه وتعالى يقول ( وماكفر سليمان ولمن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر )
6- الإستخفاف بأمر الدين عموماً من طبقات المجتمع ، وإعتباره أساطير الأولين ومن طبقات أخرى حصره في شعائر كهنوتية لاتزيد ، ثم لامكان له في منهاج الحياة والسياسة والحكم !!
7- محاربة أولياء الله في أموالهم وأنفسهم وصدهم عن دينهم سالكين في ذلك كل مسالك الشياطين من الترغيب والترهيب - نسأل الله الثبات - مما هو معلوم من الواقع الملموس ، لهذا لايستقيم لإنسان في هذه المجتمعات إسلام حتى يبراء من كل أوجه الضلال المسيطرة على هذه المجتمعات وينكرها ويكفر أهلها ويعاديهم في الله عز وجل متبعاً في هذا الأسوة الحسنة وماتتضمنه من المفاصلة على ذلك بلا مداهنة .
قال تعالى ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده )
وكما قال رسول الله r : ( من قال لا إله إلا الله وكفربما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ).
قالشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب : وهذا من أعظم مايبين معنى لا إله إلا الله فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال ، بل ولامعرفة معناها مع لفظها ، بل ولاكونه لايدعوا إلا الله وحده لاشريك له ، بل لايحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله ، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه . أ هـ (1)
فلا يكفي للحكم بإسلام المرء مع هذا الواقع الجاهلى الكافر إقامة شعائر الصلاة أو الصوم .. ولاالتزى بزى المسلمين رجالاً ونساء بل ولاالتحلى بالخلق القويم ؛ حتى يسبق ذلك كله ماكان عليه الرسول الكريم r وسائر الأنبياء والمرسلين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من البراء من الشرك وأهله وعداوتهم وتكفيرهم ، وتكفير من لم يكفرهم ] إنتهي .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في الفتاوىج12 :[ ومانجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين ، يبين لك أن الإسلام لايستقيم إلا بمعاداة أهل هذا الشرك فإن لم يعاديهم فهو منهم وإن لم يفعله ] إنتهي .
وجاء في مختصر سيرة الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ، وهي رسالة رسول الله r إلى ملوك اليمن وذلك عقب غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها النبى صلى الله عليه وسلم وقريباً من نهاية التشريع في المدينة وفيها : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله النبى إلى الحارث بن عبد كلال وإلى نعيم بن عبد كلال وإلى النعمان بن قيل ذى رعين ومعاذ وهمذان .
أما بعد فإنى أحمد إليكم الذى لاإله إلا هو ، أما بعد فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم فلقينا بالمدينة ، فبلغنا ماأرسلتم به وخبر ماقلتم وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين وأن الله هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس الله وسهم النبي وصفيه وماكتب على المؤمنين من الصدقة . وبين لهم صدقة الزرع والأبل والبقر والغنم . ثم قال : فمن أدى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين فإنه من المؤمنين له مالهم وعليه ماعليهم ] إنتهي .
وأخيراً ، قال أبو الوفاء ابن عقيل :[ إذا إردت أن تعرف محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى إزدحامهم في أبواب المساجد ولا إلى ضجيجهم بلبيك ولكن أنظر إلى مواطاتهم لأعداء الشريعة ] رسالة حكم تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة .
والله أعلى وأعلم وهو يهدى إلى سواء السبيل وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
ــــــــــــــــــ
([1] (أى السابقين للاسلام .
([2])راجع رسالة أحكام الديار للسفياني . والتفريق بين الفرع والأصل من حيث الأمان والحرب .
( [3] ) وكان نص السؤال كما يلي : ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضى الله عنهم أجمعين وأعانهم على بيان الحق المبين وكشف غمرات الجاهلين والزائغين في هؤلاء التتار الذين يقدمون إلى الشام مرة بعد مرة وقد تكلموا بالشهادتين انتسبوا إلى الإسلام ولم يبقوا على الكفر الذي كانوا عليه في أول الأمر فهل يجب قتالهم أم لا ؟ وما الحجة على قتالهم ؟ وما مذاهب العلماء في ذلك ؟ ... إلى أن يقول السائل أفتونا في ذلك بأجوبة مبسوطة شافية ، فإن أمرهم فقد أشكل على كثير من المسلمين بل على أكثرهم ، تارة لعدم العلم بأحوالهم ، وتارة لعدم العلم بحكم الله تعالى وهو حسبنا ونعم الوكيل أ .هـ . الفتاوى الكبرى رسالة الجهاد المجلد الرابع ص 244
[6](6) قوله ( لأن الظاهر يكذبه ) أى الواقع المحيط لنشأته في دار الإسلام وقد اشتهر وتواتر حرمة الزنا وعقوبته بخلاف من نشأ في بادية بعيده ولم يبلغه حرمة الزنا أو الأعجمى الحديث العهد بالإسلام ، راجع قول الإمام الذهبى في الكبائر الكبيرة الثالثة .الهامش
[7]) ) ومع العلم أن هناك خلاف قديم في هذه المسألة وراجع حوار على إبن أبى طالب مع إبن العباس رضى الله عنهما حول هذه المسألة . مثلاً كتاب أحكام أهل الذمة لإبن القيم أو تفسير الأية السابقة المائدة آية 5-
[8]) ) أى العمل بالدليل واعتباره . راجع قول سيد قطب رحمه الله في المعالم فصل لإله إلا الله منهج حياة .
[11]) ) تفسير الطبرى جزء 10- ص 348 حاشية2 طبع - دار المعارف . وراجع كتاب حكم الجاهلية ص 43- 44-لأحمد شاكر .
ومع هذا فالشوكانى رحمه الله حكم في أكثر أهل زمانه من أهل اليمن بالكفر بعد النظر في واقع القوم لإعتقادهم في الأموت وتركهم للصلاة وعدم إحسانهم لفعلها وتحاكم غالبيتهم إلى روساء العشائر والطواغيت والمغيرين لأحكام الله سبحانه وتعالى .. أنظر قوله في الذر النضيد وماذكرناه في هذا البحث ص14.
[13]) ) يلاحظ أن العرب قديماً وبالأخص الأعراب منهم يفقهمن معانى اللغة العربية لأنها لغتهم ولسان خطابهم ينشأ عليها الصغير ويهرم عليها الكبير أما اليوم فتجد العرب وغيرهم من المنتسبين للإسلام لايفقهون معانى العربية كفقه الأوائل وكلامهم عامى ركبك لذا تعلم العربية في المدارس والجامعات وتنشأ لها الكليات .
[14]) ) وقد بلغ من كفر عبيد الله هذا أنه يستهزى بالمهاجرين رضى الله عنهم بقوله فيهم : لقد فقأنا وتصأصتم . أى أنى أبصرت النور وأنتم لزلتم في الظلام والضلال ! أخزاه الله .
[15]) ) كفتوة الإمام أحمد رحمه الله في العزل في دار الحرب خشية أن ينشاء الولد كافراً . راجع ص 11من هذا البحث .. وقول الشاطبي رحمه الله ص9 من هذا البحث .. والمغنى ج 8 .وماأفتى به الإمام ابن تيمية في حكم التتار ، وعدم إنكاره على شاربي الخمر منهم ....الخ .
[17]) ) مع التنبيه على أن هناك إحتلاف بين أحكام الضرورة عن أحكام الإكراه .. فالضرورة تبيح المحضورات الشرعية التي هي دون الكفر .. أما الإكراه فيبيح للإنسان أو يطيع من أكرهه على الكفر مع ثبات قلبه على الإيمان كما قال تعالى ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ..
[18]) ) قال القرطبى رحمه الله في تفسير لسورة يوسف u : وذلك أن هذه القصص والنوازل هى معرضة لأن يقتدى بها الناس إلى يوم القيامة . راجع قوله تعالى في سورة يوسف u ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ) .
[19]) ) فتأمل قول إبن القيم ووصفه بأنه هدى رسول الله e: أن بسرى نقض العهد في ذريتهم ونسائهم للغالب على نقض الجميع ، وعدم إنكارهم ، ثم قال . إما إذا كان الناقض...
[20]) ) وتأمل أيضاً هروب عمرو بن سعد اليهودى وهو لم يدخل معهم في نقض العهد ، وخاف أن يلحقه العقاب بحكم غالب ماكان عليه قومه من النقض ، وهو نفر لاتأثير له في حكم بقية الناقضين فيعمه حكم الجميع .
[21]) ) المرتد لغة : الراجع . ومنه قوله تعالى ( ولاترتدوا على أدباركم ) أى لاترجعوا واصطلاحاً : الذي يكفر بعد إسلامه طوعاً ولو مميزاً أو هازلاً بنطق أو إعتقاد أو شك أو فعل/ المذكرات الجلية
وتأمل قول إبن تيمية رحمه الله ، كثرت البدع وظهرت - أى الغالب على ديار مصر يؤمئذ - ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر . أى بعد ذلك أصبح الغالب هم أهل السنة المخالفين للروافض ولله الحمد .
وتأمل قوله : وفي مصر من العلماء أناس كثير ، وأكثر أهل مصر لم يدخل معهم فيما أحدثوا من الكفر ، ومع ذلك أجمع العلماء على ماذكرناه . وهكذا تقررت فتواهم بالغالب على الدار . والله أعلم
[23]) ) البداية والنهاية لإبن كثير ج 4 ، والصفحة الأولى من هذا البحث .. وقول إبن تيمية هذا لم يكن رأى يراه أو تصور شخصى خصوصا في مثل هذه المواقف الحاسمة وهو أحد أئمة أهل السنة .. بل إستناداً إلى الكتاب والسنة والإجماع في ذلك .
[24]) ) والنظر حقيقته طلب معرفة حقيقة الشيء . قوله تعالى ( فلينظر ) . قال إبن هلال العسكرى في كتابه الفروق في اللغة :[ ( الفرق ) بين النظر والرؤية ، أن النظر طلب الهدى ، والشاهد نظرت فلم أرى شيئاً . وقال على بن عيس : النظر طلب ظهور الشيء ، والناظر الطالب لظهور الشيء ، والله ناظر لعباده بظهور رحمته إياهم ] .
[25]) ) قال القاضى إبن العربى رحمه الله في أحكام القرآن في صدد حديثه عن مخاطبة الكفار بفروع الشريعة : قلنا : نحن نقول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشرع بلا خلاف فيه عند المالكية ولكن لاعبرة به عندنا بفعل الكافر حتى يقدم على فعله شرط إعتبار الأفعال ، وهو الإيمان كما لاينظر إلى صلاته حتى يقدم شرطها أ . هـ أحكام القرآن لإبن العربى ج 1 ص 248 - والمراد بالإيمان أى التوحيد .
قال صاحب كتاب دعاة على أبواب جهنم : [ وذكرنا في صدر الباب وجوب صلاة الجماعة في المجتمع المسلم ، ولكن هناك إنتفاء شروط ووجود موانع ، ففتوى هذا الفريق من العلماء الفضلاء الكرام إنما كان أمرهم على من عاش في المجتمع المسلم ؛ لأن مجتمعات أولئك ليست كمجتمعاتنا الجاهلية المعاصرة .. وقال أيضاً : وأما ماجاء بالأمر كأحاديث صلوا وراء كل بر وفاجر ، وصلوا على من قال لاإله إلا الله ، وصلوا خلف من قال لا إله إلا الله فكلها ضعيفة كما ذكر البيهقى والدارقطنى والشيخ أحمد محمد شاكر .
. وقال : وحديث " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإسلام " . ضعفه السخاوى في كتابه المقاصد الحسنة ] يوسف الفكي
No hay comentarios:
Publicar un comentario