domingo, 16 de octubre de 2011

حكم صلاة الجمعة في ديار الكفر ( ابن رجب الحنبلي )


فتبين بهذا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإقامة الجمعةبالمدينة ، ولم يقمها بمكة ، وهذا يدل على أنه كان قد فرضت عليهالجمعة بمكة .
وممن قال : إن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة : أبو حامد الاسفراييني من الشافعية ، والقاضي أبو يعلى في ((خلافه الكبير )) من أصحابنا ، وابن عقيل في ((عمد الادلة )) ، وكذلك ذكره طائفة من المالكية ، منهم : السهيلي وغيره .
وأما كونه لم يفعله بمكة ، فيحمل أنه إنما امر بها أن يقيمها في دار الهجرة ، لا في دار الحرب ، وكانت مكة إذ ذاك دار حربٍ ، ولم يكن المسلمون يتمكنون فيها من إظهار دينهم ، وكانوا خائفين على أنفسهم ، ولذلك هاجروا منها إلى المدينة ، والجمعة تسقط بأعذارٍ كثيرةٍ منها الخوف على النفس والمال .
وقد أشار بعض المتأخرين من الشافعية إلى معنى آخر في الامتناع من إقامتها بمكة ، وهو : أن الجمعة إنما يقصد بإقامتها اظهار شعار الإسلام ، وهذا إنما يتمكن منه في دار الإسلام .
ولهذا لا تقام الجمعة في السجن ، وإن كان فيه أربعون ، ولا يعلم في ذلك خلافٌ بين العلماء ، وممن قاله : الحسن ، وابن سيرين ، والنخعي ، والثوري ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق وغيرهم .
وعلى قياس هذا :لو كان الأسارى في بلد المشركين مجتمعين في مكانٍ واحدٍ ؛ فإنهم لا يصلون فيه جمعةً ، كالمسجونين في دار الإسلام وأولى ؛ لا سيما وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن الإقامة في دار الحرب - وإن طالت - حكمها حكم السفر ، فتقصر فيها الصلاة أبداً ، ولو اقام المسلم باختياره ، فكيف إذا كان أسيراً مقهوراً ؟
وهذا على قول من يرى إشتراط إذن الإمام لإقامة الجمعة ، أظهر ، فأما على قول من لا يشترط إذن الإمام ، فقد قال الإمام أحمد في الأمراء إذا أخروا الصلاة يوم الجمعة : فيصليها لوقتها ويصليها مع الإمام ، فحمله القاضي أبو يعلى في ((خلافه )) على أنهم يصلونها جمعة لوقتها .
وهذا بعيدٌ جداً ، وإنما مراده : أنهم يصلون الظهر لوقتها ، ثم يشهدون الجمعة مع الأمراء .
وكذلك كان السلف الصالح يفعلون عند تأخير بني أمية للجمعة عن وقتها ،ومنهم من كان يومئ بالصلاة وهو جالسٌ في المسجد قبل خروج الوقت ، ولم يكن أحد منهم يصلي الجمعة لوقتها ، وفي ذلك مفاسد كثيرة تسقط الجمعة بخشية بعضها .
وفي ((تهذيب المدونة)) للمالكية : وإذا أتى من تأخير الأئمة ما يستنكر جمع الناس لأنفسهم أن قدروا ، وإلا صلوا ظهراً ، وتنفلوا بصلاتهم معهم .
قال : ومن لا تجب عليه الجمعة مثل المرضى والمسافرين وأهل السجن فجآئز أن يجمعوا .
وأراد بالتجميع هنا : صلاة الظهر جماعةً ، لا صلاة الجمعة ؛ فإنه قال قبله: وإذا فاتت الجمعة من تجب عليهم فلا يجمعوا .



فتح الباري لابن رجب باب فرض الجمعة

منقول من منتدي أنصار التوحيد لأبو مريم 

بيان السنة التركية والفرق بين البدعة الإضافية والحقيقية


بيان السنة التركية والفرق بين البدعة الإضافية والحقيقية     
                                           فهرس الموضوعات

·       مقدمة نافعة مرغبة فى اتباع السنة وإن كثُر المخالفون لها
من مقدمة كتاب الاعتصام للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي ...........   2 

·       موضوع البحث    .........................................................    14  

الفصل الأول : بيان السنة التركية    ...........................................    15

الفصل الثانى : معنى البدعة الإضافية والحقيقية والفرق بينهما  ..................     23



                                         بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المحمود على كل حال ، الذي بحمده يستفتح كل أمر ذي بال ، خالق الخلق لما شاء ، وميسرهم على وفق علمه وإرادته ، لا على وفق أغراضهم لما سر وساء ، ومصرفهم بمقتضى القبضتين ، فمنهم شقي وسعيد ، وهداهم النجدين فمنهم قريب وبعيد ، ومسويهم على قبول الإلهامين ففاجر وتقي ، كما قدر أرزاقهم بالعدل على حكم الطرفين ففقير وغني ، كل منهم جار على ذلك الأسلوب فلا يعدوه ، فلو تمالؤوا على أن يسدوا ذلك الفتق لم يسدوه ، أو يردوا ذلك الحكم السابق لم ينسخوه ولم يردوه ، فلا إطلاق لهم على تقييده ولا انفصال ، " وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ " النحل : 49
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبي الرحمة ، وكاشف الغمة ، الذي نسخت شريعته كل شريعة ، وشملت دعوته كل أمة ، فلم يبق لأحد حجة دون حجته ، ولا استقام لعاقل طريق سوى              لاحب محجته [1] ، وجمعت تحت حكمتها كل معنى مؤتلف ، فلا يسمع بعد وضعها خلاف مخالف ولا قول مختلف ، فالسالك سبيلها معدود في الفرقة الناجية ، والناكب عنها مصدود إلى الفرق المقصرة أو الفرق الغالية . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بشمسه المنيرة ، واقتفوا آثاره اللائحة ، وأنواره الواضحة وضوح الظهيرة ، وفرقوا بصوارم أيديهم وألسنتهم بين كل نفس فاجرة ومبرورة ، وبين كل حجة بالغة وحجة مبيرة ، وعلى التابعين لهم على ذلك السبيل ، و سائر المنتمين إلى ذلك    القبيل ، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد : فإني أذكرك أيها الصديق الأوفى والخالصة الأصفى ، في مقدمة ينبغي تقديمها قبل الشروع في المقصود ، وهي معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء " . قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : " الذين يصلحون عند فساد الناس" وفي رواية قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : " النزاع من القبائل " . وهذا مجمل ولكنه مبين في الرواية الأخرى . وجاء من طريق آخر " بدأ الإسلام غريباً ، ولا تقوم الساعة حتى يكون غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس " ، وفي رواية لابن وهب قال عليه الصلاة والسلام :" طوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله حين يترك ويعملون بالسنة حين تطفى " ،وفي رواية : " إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء " قالوا : يا رسول الله كيف يكون غريباً ؟ قال : " كما يقال للرجل في حي كذا وكذا إنه لغريب " . وفي رواية : أنه سئل عن الغرباء قال : " الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي " .                                                                                                          وجملة المعنى فيه من جهة وصف الغربة ما ظهر بالعيان والمشاهدة في أول الإسلام وآخره ..............
كان الإسلام في أوله وجدّته مقاوماً - بل ظاهراً - وأهله غالبين وسوادهم أعظم الأسودة ، فخلا من وصف الغربة بكثرة الأهل والأولياء الناصرين ، فلم يكن لغيرهم - ممن لم يسلك سبيلهم أو سلكه ولكنه ابتدع فيه - صولة يعظم موقعها ، ولا قوة يضعف دونها حزب الله المفلحون ، فصار على      استقامة ، وجرى على اجتماع واتساق ، فالشاذ مقهور مضطهد ، إلى أن أخذ اجتماعه في الافتراق الموعود ، وقوته إلى الضعف المنتظر ، والشاذ عنه تقوى صولته ويكثر سواده ، واقتضى سر التأسي المطالبة بالموافقة ولا شك أن الغالب أغلب [2] ، فتكالبت على سواد السنة البدع والأهواء ، فتفرق أكثرهم شيعاً . 
وهذه سنة الله في الخلق : إن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل لقوله تعالى : " وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ " يوسف : 103 ، وقوله تعالى : " وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ "  سبأ : 13 ،  ولينجز الله ما وعد به نبيه صلى الله عليه وسلم من عود وصف الغربة إليه ، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم ، وذلك حين يصير المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، وتصير السنة بدعةً ، والبدعة سنة ، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف ، كما كان أولاً يقام على أهل البدعة طمعاً من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال ، ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة ، فلا تجتمع الفرق كلها على كثرتها على مخالفة السنة عادة وسمعاً، بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمر الله، غير أنهم - لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء استدعاء إلى موافقتهم -  لا يزالون في جهاد ونزاع، ومدافعة وقراع ، آناء الليل والنهار ، وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل ويثيبهم الثواب العظيم .
فقد تلخص مما تقدم أن مطالبة المخالف بالموافقة جار مع الأزمان ، لا يختص بزمان دون زمان ، فمن وافق فهو عند المطالب المصيب على أي حال كان ، ومن خالف فهو المخطىء المصاب ، ومن وافق فهو المحمود السعيد ، ومن خالف فهو المذموم المطرود ، ومن وافق فقد سلك سبيل الهداية ،
ومن خالف فقد تاه في طرق الضلالة والغواية . [3]
وإنما قدمت هذه المقدمة لمعنى أذكره . وذلك أني - ولله الحمد - لم أزل منذ فتق للفهم عقلي ، ووجه شطر العلم طلبي ، أنظر في عقلياته ، وشرعياته ، وأصوله وفروعه ، لم أقتصر منه على علم دون علم ، ولا أفردت عن أنواعه نوعاً دون آخر ، حسبما اقتضاه الزمان والمكان ، وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي ، بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة ، وأقدمت في ميادينه إقدام الجريء ، حتى كدت أتلف في بعض أعماقه ، و أنقطع من رفقتي التي بالأنس بها تجاسرت على ما قدّر لي ، غائباً عن مقال القائل وعذل العاذل ، ومعرضاً عن صد الصاد ولوم اللائم ، إلى أن منّ عليّ الرب الكريم ، الرؤوف الرحيم ، فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسابي ، وألقى في نفسي القاصرة أن كتاب الله وسنة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يعتد فيه ، وإن الدين قد كمل ،
و السعادة الكبرى فيما وضع ، والطلبة فيما شرع ، وما سوى ذلك فضلال وبهتان ، وإفك وخسران ، وأن العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى ، محصل لكليتي الخير دنيا وأخرى ، وما سواهما فأحلام وخيالات وأوهام ، وقام لي على صحة ذلك البرهان الذي لا شبهة تطرق حول حماه ، ولا ترتمي نحو مرماه : " ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ " يوسف : 38 ،  والحمد لله والشكر كثيراً كما هو أهله .  
فمن هنالك قويت نفسي على المشي في طريقه بمقدار ما يسر الله فيه ، فابتدأت بأصول الدين عملاً واعتقاداً ، ثم بفروعه المبنيّة على تلك الأصول ،وفي خلال ذلك أتبين ما هو من السنن أو من البدع، كما أتبين ما هو من الجائز وما هو من الممتنع ، وأعرض ذلك على علم الأصول الدينية والفقهية ، ثم أطالب نفسي بالمشي مع الجماعة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسواد الأعظم ، في الوصف الذي كان عليه هو وأصحابه ، وترك البدع التي نص عليها العلماء أنها بدع وأعمال مختلفة .
وكنت في أثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها فلما أردت الاستقامة على الطريق ، وجدت نفسي غريباً في جمهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد ، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد ، ولم يكن ذلك بدعاً في الأزمنة المتقدمة ، فكيف في زماننا هذا فقد روي عن السلف الصالح من التنبيه على ذلك كثير ،  
كما روي عن أبي الدرداء أنه قال : لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة . قال الأوزاعي : فكيف لو كان اليوم ؟ قال عيسى بن يونس : فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان ؟

وعن أم الدرداء قالت : دخل أبو الدراداء وهو غضبان ، فقلت : ما أغضبك ؟ فقال : والله ما أعرف فيهم شيئاً من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعاً .

وعن أنس بن مالك قال : ما أعرف منكم ما كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قولكم : لا إله إلا الله . قلنا : بلى يا أبا حمزة ؟ قال : قد صليتم حتى تغرب الشمس ، أفكانت تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

وعن أنس قال : لو أن رجلاً أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئاً ، قال : ووضع يده على خده ثم قال : إلا هذه الصلاة ، ثم قال : أما والله على ذلك لمن عاش في النكر ولم يدرك ذلك السلف الصالح فرأى مبتدعاً يدعو إلى بدعته ، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه ، فعصمه الله من ذلك ، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح ، يسأل عن سبلهم ، ويقتص آثارهم ، ويتبع سبيلهم ، ليعوض أجراً عظيماً ، وكذلك فكونوا إن شاء الله .
وعن ميمون بن مهران قال : لو أن رجلاً أنشر فيكم من السلف ما عرف غير هذه القبلة .

وعن سهل بن مالك عن أبيه قال : ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة . إلى ما أشبه هذا من الآثار الدالة على أن المحدثات ، تدخل في المشروعات ، وأن ذلك قد كان قبل زماننا ، وإنما تتكاثر على توالي الدهور إلى الآن .

فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد ، ولا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها ، إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل ، وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح ، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذاً بالله من ذلك ، إلا أني أوافق المعتاد ، وأعد من المؤالفين ، لا من المخالفين ، فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة ، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً ، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور ، فقامت علي القيامة ، وتواترت علي الملامة ، وفوّق إليّ العتاب سهامه ، ونسبت إلى البدعة والضلالة ، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة ، وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجاً لوجدت ، غير أن ضيق العطن ، والبعد عن أهل الفطن ، رقى بي مرتقى صعباً وضيق علي مجالاً رحباً ، وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات ، لموافقات العادات ، أولى من اتباع الواضحات، وإن خالفت السلف الأول .
وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب ، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة .

فتارةً نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه كما يعزى إلى بعض الناس ، بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة . وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء .
وتارةً نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم ، بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص ، إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم ، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب . وقد سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين؟ فقال : هو بدعة ولا ينبغي العمل به ، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة . قيل له : فدعاؤه للغزاة والمرابطين ؟ قال: ما أرى به بأساً عند الحاجة إليه ، وأما أن يكون شيئاً يجعله في خطبته دائماً ، فإني أكره ذلك . ونص أيضاً عز الدين بن عبد السلام : على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة .
وتارةً أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة،وما أضافوه إلىّ إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم .
وتارة حمل علىّ التزام الحرج والتنطع في الدين ، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه ، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه ، وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم أو في غيره وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب ( الموافقات ) .
وتارةً نسبت إلى معاداة أولياء الله ، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق ، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم .
وتارةً نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة ، بناءً منهم على أن الجماعة التي أمر بأتباعها وهي الناجية ما عليه العموم ، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان . وسيأتي بيان ذلك بحول الله ، وكذبوا عليّ في جميع ذلك ، أو وهموا ، والحمد لله على كل حال .
فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه إذ حكى عن نفسه فقال : ( عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين ، والعارفين والمنكرين ، فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها - موافقاً أو مخالفاً - دعاني إلى متابعته على ما يقوله ، وتصديق قوله والشهادة له ، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان سماني موافقاً ، وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفاً ، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد سماني خارجياً ، وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سماني مشبهاً ، وإن كان في الرؤية سماني سالمياً ، وإن كان في الإيمان سماني مرجئاً ، وإن كان في الأعمال سماني قدرياً ، وإن كان في المعرفة سماني كرامياً، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبياً، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضياً ،
وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهرياً ، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنياً ، وإن أجبت بتأويل سماني أشعرياً ، وإن جحدتهما سماني معتزلياً ، وإن كان في السنن مثل القراءة سماني شفعوياً ، وإن كان في القنوت سماني حنفياً ، وإن كان في القرآن سماني حنبلياً ، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار - إذ ليس في الحكم والحديث محاباة -  قالوا : طعن في تزكيتهم ، ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرؤون عليّ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسامي ، ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره ، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى ، ولن يغنوا عني من الله شيئاً . وإني مستمسك بالكتاب والسنة وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم .)

هذا تمام الحكاية فكأنه رحمه الله تكلم على لسان الجميع ، فقلما تجد عالماً مشهوراً أو فاضلاً مذكوراً ، إلا وقد نبذ بهذه الأمور أو بعضها ، لأن الهوى قد يداخل المخالف ، بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها ، والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف، فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة  إنه غير صاحبها، ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله ، حتى ينسب هذه المناسب .

وقد نقل عن السيد العباد بعد الصحابة أويس القرني أنه قال : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقاً ، نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا ويجدون في ذلك أعواناً من الفاسقين ، حتى - والله - لقد رموني بالعظائم ، وأيم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه .

فمن هذا الباب يرجع الإسلام غريباً كما بدأ ، لأن المؤالف فيه على وصفه الأول قليل ، فصار المخالف هو الكثير ، فاندرست رسوم السنة حتى مدت البدع أعناقها ، فأشكل مرماها على الجمهور فظهر مصداق الحديث الصحيح .

ولما وقع عليّ من الإنكار ما وقع - مع ما هدى الله إليه وله الحمد - لم أزل أتبع البدع التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منها ، وبين أنها ضلالة وخروج عن الجادة ، وأشار العلماء إلى تمييزها والتعريف بجملة منها ، لعلي أجتنبها فيما استطعت ، وأبحث عن السنن التي كادت تطفىء نورها تلك المحدثات لعلي أجلو بالعمل سناها ، وأعد يوم القيامة فيمن أحياها ، إذ ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنن ما هو في مقابلتها ، حسبما جاء عن السلف في ذلك .  
فعن ابن عباس قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة ، حتى تحيا البدعة وتموت السنن .
وفي بعض الأخبار : لا يحدث رجل بدعة إلا ترك من السنة ما هو خير منها . وعن لقمان بن أبي إدريس الخولاني أنه كان يقول : ما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع بها عنهم سنة .
وعن حسان بن عطية قال : ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة ، إلى غير ذلك مما جاء في هذا المعنى وهو مشاهد معلوم حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وجاء من الترغيب في إحياء السنن ما جاء . فقد خرج ابن وهب حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من الناس لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله رسوله فإن عليه إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئاً " وأخرجه الترمذي باختلاف في بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى وقال فيه: حديث حسن .
وفي الترمذي "عن أنس قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل " . ثم قال لي : " يا بني وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحبني ، ومن أحبني كان معي في الجنة " حديث حسن .

فرجوت بالنظر في هذا الموضع الانتظام في سلك من أحيا سنة وأمات بدعة . وعلى طول العهد ودوام النظر اجتمع لي في البدع والسنن أصول قررت أحكامها الشريعة ، وفروع طالت أفنانها لكنها تنتظمها تلك الأصول ، وقلما توجد على الترتيب الذي سنح في الخاطر ، فمالت إلى بثها النفس ، ورأت أنه من الأكيد الطلب ؛ لما فيه من رفع الالتباس الناشىء بين السنن والبدع ، لأنه لما كثرت البدع وعم ضررها، واستطار شررها ، ودام الإكباب على العمل بها ، والسكوت من المتأخرين عن الإنكار لها ، وخلفت بعدهم خلوف جهلوا أو غفلوا عن القيام بفرض القيام فيها ، صارت كأنها سنن مقررات ، وشرائع من صاحب الشرع محررات ، فاختلط المشروع بغيره ، فعاد الراجع إلى محض السنة كالخارج عنها كما   تقدم ، فالتبس بعضها ببعض ، فتأكد الوجوب بالنسبة إلى من عنده فيها علم ، وقلما صنّف فيها على الخصوص تصنيف ، وما صنف فيها فغير كاف في هذه المواقف ، مع أن الداخل في هذا الأمر اليوم فاقد المساعد ، عديم المعين ، فالموالي له يخلد به إلى الأرض ، ويلقي له باليد إلى العجز عن بث الحق ، بعد رسوخ العوائد في القلوب ، والمعادي يرميه  بالأردبيس [4] ، ويروم أخذه بالعذاب البئيس ، لأنه يرد عوائده الراسخة في القلوب ، المتداولة في الأعمال ، ديناً يتعبد به ، وشريعة يسلك عليها لا حجة له إلا عمل الآباء والأجداد ، مع بعض الأشياخ العالمين ، كانوا من أهل النظر في هذه الأمور أم لا . ولم يلتفتوا إلى أنهم عند موافقتهم للآباء والأشياخ مخالفون للسلف الصالح ، فالمعترض لمثل هذا الأمر ينحو نحو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في العمل حيث قال : ألا وإني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله قد فني عليه الكبير ، وكبر عليه الصغير ، وفصح عليه الأعجمي ، وهاجر عليه الأعرابي ، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره .
وكذلك ما نحن بصدد الكلام عليه ، غير أنه أمر لا سبيل إلى إهماله ، ولا يسع أحداً ممن له منّة إلا الأخذ بالحزم والعزم في بثه ، بعد تحصيله على كماله ، وإن كره المخالف فكراهيته لا حجة فيها على الحق ألا يرفع مناره ، ولا تكشف وتجلى أنواره ، فقد خرج أبو الطاهر السلفي بسنده إلى أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :
" يا أبا هريرة علم الناس القرآن وتعلمه ، فإنك إن مت وأنت كذلك زارت الملائكة قبرك كما يزار البيت العتيق ، وعلم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك ، وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل فلا تحدث في دين الله حدثاً برأيك " .
قال أبو عبد الله بن القطان : وقد جمع الله له ذلك كله من إفراء كتاب الله والتحديث بالسنة ، أحب الناس أم كرهوا ، وترك الحدث حتى إنه كان لا يتأول شيئاً مما روى تتميماً للسلامة من الخطأ .
على أن أبا العرب التميمي حكى عن ابن فروخ أنه كتب إلى مالك بن أنس : إن بلدنا كثير البدع وإنه ألف كلاماً في الرد عليهم . فكتب إليه مالك يقول له : إن ظننت ذلك بنفسك خفت أن تزل فتهلك ، لا يرد عليهم إلا من كان ضابطاً عارفاً بما يقول لهم لا يقدرون أن يعرجوا عليه فهذا لا بأس به ، وأما غير ذلك فإني أخاف أن يكلمهم فيخطىء فيمضوا على خطئه أو يظفروا منه بشيء فيطغوا ويزدادوا تمادياً على ذلك .
وهذا الكلام يقضي لمثلي بالإحجام دون الإقدام ، وشياع هذا المنكر وفشوا العمل به وتظاهر أصحابه يقضي لمن له بهذا المقام منة بالإقدام دون الإحجام ، لأن البدع قد عمت وجرت أفراسها من غير مغبّر ملء أعنتها .
وحكى ابن وضاح عن غير واحد : أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات : ( اعلم يا أخي أن ما حملني على الكتب إليك ما أنكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس ، وحسن حالك مما أظهرت من السنة . وعيبك لأهل البدع وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم ، فقمعهم الله بك ، وشد بك ظهر أهل السنة ، وقواك عليهم بإظهار عيبهم ، والطعن عليهم ، وأذلهم الله بذلك وصاروا ببدعتهم مستترين . فأبشر يا أخي بثواب الله ، واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد . وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!                           وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ومن أحيا شيئاً من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وضم بين إصبعيه " ، وقال: " أيما داع دعا إلى هذه فاتبع عليه كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة"، فمن يدرك يا أخي هذا بشيء من عمله ؟!                                                               
وذكر أيضاً : إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً لله يذب عنها ، وينطق بعلامتها .                         فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فأوصاه وقال : " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من كذا وكذا "، وأعظم القول فيه ، فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث ، فيكونون أئمة بعدك فيكون لك ثواب إلى يوم القيامة كما جاء الأثر .                                                      فاعمل على بصيرة ونية حسنة فيرد الله بك المبتدع والمفتون الزائغ الحائر ، فتكون خلفاً من نبيك صلى الله عليه وسلم فأحي كتاب الله وسنة نبيه ، فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه ) . انتهى
ما قصدت إيراده من كلام أسد رحمه الله ، وهو مما يقوي جانب الإقدام مع ما روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه خطب الناس فكان من جملة كلامه في خطبته أن قال : والله إني لولا أن أنعش سنة قد أميتت ، أو أن أميت بدعة قد أحييت ، لكرهت أن أعيش فيكم فواقاً .

وخرج ابن وضاح في كتاب القطعان وحديث الأوزاعي أنه بلغه عن الحسن أنه قال : لن يزال لله نصحاء في الأرض من عباده يعرضون أعمال العباد على كتاب الله فإذا وافقوه حمدوا الله ، وإذا خالفوه عرفوا بكتاب الله ضلالة من ضل وهدى من اهتدى ، فأولئك خلفاء الله .
وفيه عن سفيان قال : اسلكوا سبيل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهله . فوقع الترديد بين النظرين .
ثم إني أخذت في ذلك مع بعض الأخوان الذين أحللتهم من قلبي محل السويداء وقاموا لي في عامة أدواء نفسي مقام الدواء ، فرأوا أنه من العمل الذي لا شبهة في طلب الشرع نشره ، ولا إشكال في أنه بحسب الوقت من أوجب الواجبات ، فاستخرت الله تعالى في وضع كتاب يشتمل على بيان البدع وأحكامها وما يتعلق بها من المسائل أصولاً وفروعاً وسميته بـ الإعتصام .                                   والله أسأل أن يجعله عملاً خالصاً ، ويجعل ظل الفائدة به ممدوداً لا قالصاً ، والأجر على العناء فيه كاملاً لا ناقصاً ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . [5]

                                              موضوع البحث
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أوصانا بمَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا عُيُونُ صحابته الكرام وَوَجِلَتْ مِنْهَا قُلُوبُهم حتى قالوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟  قَالَ : " قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ . "
فإذا تحققت هذا وعلمته فالواجب علينا أن نعتصم بكتاب الله وسنة رسوله ، وأن نتبع ولا نبتدع . 
والأمر الذى قد يغفل عنه كثيرا من الناس - فيما يتعلق بالعبادات - هو أن اتباع السنة كما يكون بعمل ما دعت إليه ، فكذلك يكون بترك ما تركت العمل به ولم تدع إليه ،
وهذا العمل الذى جاءت السنة المطهرة بتركه إما أن يكون أصله مشروع أو غير مشروع ، فإذا لم يكن أصله مشروع فلا يخفى على أحد أن العمل به بدعة ،
ولكن موضوع حديثنا هو ترك العمل بما كان أصله مشروع من العبادات المشروعة ، ولكنها شُرعت مقيدة بأوصاف لا تنفك عنها ، فإطلاقها والحال كهذه يعد من قبيل البدع ،
وسيكون بياننا لهذا الأمر من خلال بيان السنة التركية ، والتعرف على كلا من البدعة الإضافية والحقيقية والفرق بينهما ، ومعرفة ما إذا كان العمل بما كان تركه سنة - من العبادات المشروعة المقيدة بأوصاف لا تنفك عنها - هل هو من البدع الإضافية أم الحقيقية ؟  
كما أنه سيكون من خلال تطبيقه على إحدى المسائل المعاصرة التى تحتاج أن تُفهم فهما مستقيما ،        وهى مسألة صلاة الجمعة والعيدين ، وإن كنّا سنولى اهتماما أكبر لصلاة العيدين . 



الفصل الأول : بيان السنة التركية
يقول ابن قيم الجوزية :
فصل : نقل الصحابة ما تركه صلى الله عليه وسلم
وأما نقلهم لتركه صلى الله عليه وسلم فهو نوعان وكلاهما سنة ،                                               أحدهما : تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله ، كقوله في شهداء أحد: (ولم يغسلهم ولم يصل عليهم)، وقوله في صلاة العيد : ( لم يكن أذان ولا إقامة ولا نداء ) ،
وقوله في جمعه بين الصلاتين : ( ولم يسبح بينهما ولا على أثر واحدة منهما ) ونظائره .

والثاني : عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله فحيث لم ينقله واحد منهم البتة ولا حدث به في مجمع أبدا علم أنه لم يكن ، وهذا كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة ، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمنون على دعائه دائما بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات ، وتركه رفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من ركوع الثانية ، وقوله : ( اللهم اهدينا فيمن هديت ) يجهر بها ويقول المأمومين كلهم ( آمين ) ، ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغير ولا كبير ولا رجل ولا امرأة البتة وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يخل به يوما واحدا ، وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة ولرمي الجمار ولطواف الزيارة ولصلاة الاستسقاء والكسوف ، ومن ههنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة ؛ فإن تركه صلى الله عليه وسلم سنة كما أن فعله سنة فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق .
فإن قيل : من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم ؟
فهذا سؤال بعيد جدا عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه ،                                                        ولو صح هذا السؤال وقيل لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح ، وقال : من أين لكم أنه لم ينقل ؟
واستحب لنا مستحب آخر الغسل لكل صلاة ، وقال : من أين لكم أنه لم ينقل ؟
واستحب لنا مستحب آخر النداء بعد الأذان للصلاة يرحمكم الله ورفع بها صوته ، وقال : من أين لكم أنه لم ينقل ؟
واستحب آخر لبس السواد والطرحة للخطيب وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه ورفع المؤذنين أصواتهم كلما ذكر الله واسم رسوله جماعة وفرادى ، وقال : من أين لكم أن هذا لم ينقل ؟
واستحب لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب ، وقال : من أين لكم أن إحياءهما لم ينقل ؟
وانفتح باب البدعة ، وقال كل من دعا إلى بدعة : من أين لكم أن هذا لم ينقل ؟ ومن هذا تركه أخذ الزكاة من الخضروات والمباطخ وهم يزرعونها بجواره بالمدينة كل سنة فلا يطالبهم بزكاة ولا هم يؤدونها إليه . [6]

قلت : ونظير تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله كقوله في صلاة العيد : ( لم يكن أذان ولا إقامة ولا نداء ) : قول عَلِيٌّ رضى الله عنه : ( لاَ جُمُعَةَ ، وَلاَ تَشْرِيقَ إِلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ ) [7] ،                                            وقوله : ( لاَ جُمُعَةَ ، وَلاَ تَشْرِيقَ ، وَلاَ صَلاَةَ فِطْرٍ ، وَلاَ أَضْحَى ، إِلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ ،                              أَوْ مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ. ) [8]

فلا ريب أن ترك النبى صلى الله عليه وسلم ( صلاة الجمعة و العيدين فى غير المصر الجامع )، وكذلك ترك الخلفاء الراشدين لها من بعده سنة ، حيث أن موجبه ومقتضيه قائم فإن الجمعة قد فُرضت على النبى صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة ولم يصليها هناك ، و كذلك لم يأمر النبى صلى الله عليه وسلم المسلمين بالحبشة بإقامة الجمعة ، فلم تُصلى إلا فى المدينة .
يقول الشوكانى : أن الجمعة فرضت على النبى صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة كما أخرجه الطبرانى عن ابن عباس فلم يتمكن من إقامتها هنالك من أجل الكفار فلما هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة كتب إليهم يأمرهم أن يجمعوا فجمعوا . [9]

يقول النسفى فى تفسير قوله تعالى " واجعلوا بيوتكم قبلة " : أى مساجد متوجهة نحو القبلة وهى الكعبة وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة وكانوا فى أول الأمر مأمورين بأن يصلوا فى بيوتهم فى خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المسلمون على ذلك فى أول الإسلام بمكة . [10]

ولا ينبغى أن يُفهم من كلام أهل العلم أن علة المنع من أدائها فى مكة هى العجز وأذية الكفار فحسب ، وأنه لو زالت تلك العلة لصحت تأديتها فى دار الكفر ، وذلك لأنها من الشعائر الظاهرة التى يشترط لها القوة والتمكين ، قال تعالى : " الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ " الحج 41

يقول ابن تيمية : والدين القائم بالقلب من الإيمان علما وحالا هو الأصل ، والأعمال الظاهرة هى الفروع وهى كمال الإيمان . فالدين أول ما يبنى من أصول ويكمل بفروعه كما أنزل الله بمكة أصوله من التوحيد والأمثال التى هى المقاييس العقلية والقصص والوعد والوعيد ثم أنزل بالمدينة لما صار له قوة فروعه الظاهرة من الجمعة والجماعة ....فأصوله تمد فروعه وتثبتها وفروعه تكمل أصوله وتحفظها . [11]

فيُفهم منه الوقوف عند ما حدّ وهو اشتراط المصر الجامع واعتباره من جملة خصائصها الذى لا تنفك عنها.
يقول السرخسى : ( ولنا ) قوله عليه الصلاة والسلام : " لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع "    وقال علي رضي الله تعالى عنه : " لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع " ولأن الصحابة حين فتحوا الأمصار والقرى ما اشتغلوا بنصب المنابر وبناء الجوامع إلا في الأمصار والمدن وذلك اتفاق منهم على أن المصر من شرائط الجمعة . [12]

و يقول الكاسانى : وروي عن أبي هريرة أنه كتب إلى عمر يسأله عن الجمعة بجؤاثى فكتب إليه أن أجمع بها وحيث ما كنت ؛ ولأن جواز الصلاة مما لا يختص بمكان دون مكان كسائر الصلوات ،  ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع " ، وعن علي رضي الله تعالى عنه " لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع " ، وكذا النبي صلى الله عليه وسلم " كان يقيم الجمعة بالمدينة " ، وما روي الإقامة حولها ، وكذا الصحابة رضي الله تعالى عنهم فتحوا البلاد وما نصبوا المنابر إلا في الأمصار فكان ذلك إجماعا منهم على أن المصر شرط ؛ ولأن الظهر فريضة فلا يترك إلا بنص قاطع والنص ورد بتركها إلا الجمعة في الأمصار ولهذا لا تؤدى الجمعة في البراري ؛ ولأن الجمعة من أعظم الشعائر فتختص بمكان إظهار الشعائر وهو المصر . [13]

ويقول أيضا : ( فصل ) : وأما شرائط وجوبها وجوازها فكل ما هو شرط وجوب الجمعة وجوازها فهو شرط وجوب صلاة العيدين وجوازها من الإمام والمصر والجماعة والوقت إلا الخطبة فإنها سنة بعد الصلاة . ولو تركها جازت صلاة العيد .
أما الإمام فشرط عندنا لما ذكرنا في صلاة الجمعة وكذا المصر لما روينا عن علي رضي الله عنه أنه قال :
" لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع " ولم يرد بذلك نفس الفطر ونفس الأضحى ونفس التشريق ؛ لأن ذلك مما يوجد في كل موضع بل المراد من لفظ الفطر والأضحى صلاة العيدين ؛
 ولأنها ما ثبتت بالتوارث من الصدر الأول إلا في الأمصار ، ويجوز أداؤها في موضعين ؛ لما ذكرنا في الجمعة ، والجماعة شرط ؛ لأنها ما أديت إلا بجماعة والوقت شرط فإنها لا تؤدى إلا في وقت مخصوص به جرى التوارث . [14]


فإن قيل : أن من الأئمة من أجاز تأدية صلاة العيد منفردا وفى القرى الصغيرة ، فدل ذلك على عدم صحة إطلاقكم القول بالمنع من صلاتها فى دار الكفر والحكم على من يصليها بأنه مخالف للسنة ؟

قلنا : إن تجويز بعض الأئمة صلاتها منفردا أو فى الصحارى والقرى الصغيرة لا يعنى تجويزهم صلاتها فى دار الكفر ، كما أن اختصاص إقامة الحدود بالمصر الجامع لا يعنى عدم إقامتها على من فعل ما يستوجب حد من الحدود فى غيرها من القرى التابعة لها ، وهذا بخلاف إقامتها فى أرض العدو المنهى عنه ،
فعلم من ذلك عدم صحة قياس مشروعية أداء عمل من الأعمال فى القرى بأدائه فى دار الكفر .









و إن قيل : أن من الأئمة من ذهب إلى أن صلاة العيد سنة وليست فرضا ، فهل لاختلافهم فى فرضيتها تأثير على حكم أدائها فى دار الكفر ؟

قلت : اختلافهم فى فرضيتها ليس له تأثير فى الحكم بالمنع من أدائها فى دار الكفر ؛ وذلك لأنها صلاة مخصوصة بخصائص يجب مراعتها عند أدائها ، فهى إنما تشرع مع الإمام ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه لم يكن فيها صلاة عيد إلا مع الإمام .
يقول ابن تيمية : لم يكن أحد يصلي صلاة العيد بالمدينة إلا معه كما لم يكونوا يصلون الجمعة إلا معه وكان بالمدينة مساجد كثيرة لكل دار من دور الأنصار مسجد ولهم إمام يصلي بهم والأئمة يصلون بهم الصلوات الخمس ولم يكونوا يصلون بهم لا جمعة ولا عيدا .
فعلم أن العيد كان عندهم من جنس الجمعة لا من جنس التطوع المطلق ولا من جنس صلاة الجنازة وقول القائل إن صلاة العيد تطوع : ممنوع ولو سلم قيل له هذه مخصوصة بخصائص لا يشركها فيها غيرها والسنة مضت بأن المسلمين كلهم يجتمعون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بعده ولم يكونوا في سائر التطوع يفعلون هذا وكان يخرج بهم إلى الصحراء ويكبر فيها ويخطب بعدها وهذا مشروع في كل يوم عيد شريعة راتبة والاستسقاء لم يختص بالصلاة ؛ بل كان مرة يستسقي بالدعاء فقط وهو في المدينة ومرة يخرج إلى الصحراء ويستسقي بصلاة وبغير صلاة حتى إن من العلماء من لم يعرف في الاستسقاء صلاة كأبي حنيفة فلما كان الاستسقاء يشرع بغير صلاة ولا خطبة ولآحاد الناس لم يلحق بالعيد الذي لا يكون إلا بصلاة وخطبة وهو شريعة راتبة ليس مشروعا لأمر عارض كالكسوف والاستسقاء .
وأيضا فإن علي بن أبي طالب لما استخلف للناس من يصلي العيد بالضعفاء في المسجد الجامع أمره أن يصلي أربع ركعات كما أن من لم يصل الجمعة صلى أربعا ولم يكن الناس يعرفون قبل علي أن يصلي أحد العيد إلا مع الإمام في الصحراء فإذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه لم يكن فيها صلاة عيد إلا مع الإمام بطل أن يكون بمنزلة ما كانوا يفعلونه وحدانا وجماعة .
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعها للنساء بل أمرهن أن يخرجن يوم العيد حتى أمر بإخراج الحيض فقالوا له : إن لم يكن للمرأة جلباب قال " لتلبسها أختها من جلبابها " وهذا توكيد لخروجهن يوم العيد مع أنه في الجمعة والجماعة قال " وبيوتهن خير لهن " وذلك لأنه كان يمكنهن أن يصلين في البيوت يوم الجمعة كسائر الأيام فيصلين ظهرا فلو كانت صلاة العيد مشروعة لهن في البيوت لأغنى ذلك عن توكيد خروجهن . وأيضا لو كان ذلك جائزا لفعله النساء على عهده كما كن يصلين التطوعات . فلما لم ينقل أحد أن أحدا من النساء صلى العيد على عهده في البيت ولا من الرجال بل كن يخرجن بأمره إلى المصلى علم أن ذلك ليس من شرعه .

وأيضا فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قيل له : إن بالمدينة ضعفاء لا يمكنهم الخروج معك فلو استخلفت من يصلي بهم فاستخلف من صلى بهم . فلو كان الواحد يفعلها لم يحتج إلى الاستخلاف الذي لم تمض به السنة ودل ما فعله أمير المؤمنين علي على الفرق بين القادر على الخروج إلى المصلى والعاجز عنه .
فالقادر يخرج والنساء قادرات على الخروج فيخرجن ولا يصلين وحدهن ،
وكذلك من كان من المسافرين في البلد فإنه يمكنهم أن يصلوا مع الإمام فلا يصلون وحدهم بإمام بخلاف الجمعة فإنهم إذا لم يصلوها صلوا وحدهم وإذا كانوا في بيوتهم صلوا بإمام كما يصلون في الصحراء
وأما من كان يوم العيد مريضا أو محبوسا وعادته يصلي العيد فهذا لا يمكنه الخروج فهؤلاء بمنزلة الذين استخلف علي من يصلي بهم فيصلون جماعة وفرادى ويصلون أربعا كما يصلون يوم الجمعة بلا تكبير ولا جهر بالقراءة ولا أذان وإقامة لأن العيد ليس له أذان وإقامة فلا يكون في المبدل عنه بخلاف الجمعة فإن فيها وفي الظهر أذانا وإقامة والجمعة كل من فاتته صلى الظهر ؛ لأن الظهر واجبة فلا تسقط إلا عمن صلى الجمعة فلا بد لكل من كان من أهل وجوب الصلاة أن يصلي يوم الجمعة إما الجمعة وإما الظهر ولهذا كان النساء والمسافرون وغيرهم إذا لم يصلوا الجمعة صلوا ظهرا .

وأما يوم العيد فليس فيه صلاة مشروعة غير صلاة العيد وإنما تشرع مع الإمام فمن كان قادرا على صلاتها مع الإمام من النساء والمسافرين فعلوها معه وهم مشروع لهم ذلك بخلاف الجمعة فإنهم إن شاءوا صلوها مع الإمام وإن شاءوا صلوها ظهرا ؛ بخلاف العيد فإنهم إذا فوتوه فوتوه إلى غير بدل فكان صلاة العيد للمسافر والمرأة أوكد من صلاة يوم الجمعة والجمعة لها بدل بخلاف العيد . وكل من العيدين إنما يكون في العام مرة والجمعة تتكرر في العام خمسين جمعة وأكثر فلم يكن تفويت بعض الجمع كتفويت العيد . ومن يجعل العيد واجبا على الأعيان لم يبعد أن يوجبه على من كان في البلد من المسافرين والنساء كما كان فإن جميع المسلمين الرجال والنساء كانوا يشهدون العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقول بوجوبه على الأعيان أقوى من القول بأنه فرض على الكفاية .

وأما قول من قال إنه تطوع فهذا ضعيف جدا ؛ فإن هذا مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وداوم عليه هو وخلفاؤه والمسلمون بعده ولم يعرف قط دار إسلام يترك فيها صلاة العيد وهو من أعظم شعائر الإسلام . وقوله تعالى " وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ " ونحو ذلك من الأمر بالتكبير في العيدين أمر بالصلاة المشتملة على التكبير الراتب والزائد بطريق الأولى والأحرى وإذا لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في تركه للنساء فكيف للرجال .  
ومن قال : هو فرض على الكفاية . قيل له : هذا إنما يكون فيما تحصل مصلحته بفعل البعض كدفن الميت وقهر العدو وليس يوم العيد مصلحة معينة يقوم بها البعض بل صلاة يوم العيد شرع لها الاجتماع أعظم من الجمعة فإنه أمر النساء بشهودها ولم يؤمرن بالجمعة بل أذن لهن فيها وقال :  " صلاتكن في بيوتكن خير لكن " . [15]



الفصل الثانى : معنى البدعة الإضافية والحقيقية والفرق بينهما  

وجاء فى الاعتصام للإمام الشاطبى : الباب الخامس في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما
ولا بد قبل النظر في ذلك من تفسير البدعة الحقيقية والإضافية فنقول وبالله التوفيق :
إن البدعة الحقيقية : هي التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل ولذلك سميت بدعة - كما تقدم ذكره - لأنها شئ مخترع على غير مثال سابق وإن كان المبتدع يأبى أن ينسب إليه الخروج عن الشرع إذ هو مدع أنه داخل بما استنبط تحت مقتضى الأدلة لكن تلك الدعوى غير صحيحة لا في نفس الأمر ولا بحسب الظاهر أما بحسب نفس الأمر فبالعرض وأما بحسب الظاهر فإن أدلته شبه ليست بأدلة إن ثبت أنه استدل وإلا فالأمر واضح .
وأما البدعة الإضافية فهي التي لها شائبتان : إحداهما لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة ، والأخرى ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضعنا له هذه التسمية وهي البدعة الإضافية أي أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة لأنها مستندة إلى دليل وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل أو غير مستندة إلى شيء والفرق بينهما من جهة المعنى أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العاديات المحضة . [16]

ويقول : ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية أن يكون أصل العبادة مشروعا إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل توهما أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي أو يطلق تقييدها وبالجملة فتخرج عن حدها الذي حد لها . [17]
ويقول أيضا : فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت بدليل الشرع تقييدها رأي في التشريع ، كما أن إطلاق المقيدات شرعا رأى فى التشريع فكيف إذا عارضه الدليل . [18]

و يقول عن المطلقات : فيكفى فيها إيقاع مقتضى الألفاظ المطلقة ، فلا يستلزم إيقاعها على وجه مخصوص دون وجه ، ولا على صفة دون صفة ، فلا بد من تعيين وجه أو صفة على الخصوص، واللفظُ لا يشعر به على الخصوص؛ فهو مفتقر إلى تجديد أمر يقتضي الخصوص ، وهو المطلوب .
وينبني على هذا أن المكلف مفتقر في أداء مقتضى المطلقات على وجه واحد دون غيره إلى دليل ، فإنا إذا فرضناه مأمورًا بإيقاع عمل من العبادات مثلا ، من غير تعيين وجه مخصوص ؛ فالمشروع فيه على هذا الفرض لا يكون مخصوصًا بوجه ولا بصفة بل أن يقع على حسب ما تقع الأعمال الاتفاقية الداخلة تحت الإطلاق ؛ فالمأمور بالعتق مثلا أُمِر بالإعتاق مطلقًا من غير تقييد مثلا بكونه ذكر دون أنثى ، ولا أسود دون أبيض ولا كاتبًا دون صانع ، ولا ما أشبه ذلك .
فإذا التزم هو في الإعتاق نوعًا من هذه الأنوع دون غيره ؛ احتاج في هذا الالتزام إلى دليل ، وإلا كان التزامُه غيرَ مشروع ، وكذلك إذا التزم في صلاة الظهر مثلا أن يقرأ بالسورة الفلانية دون غيرها دائمًا ، أو أن يتطهر من ماء البئر دون ماء الساقية، أو غير ذلك من الالتزامات التي هي توابع لمقتضى الأمر في المتبوعات ؛ فلا بد من طلب دليل على ذلك، وإلا لم يصح في التشريع ، وهو عرضة لأن يكُرّ على المتبوع بالإبطال .
وبيانه أن الأمر إذا تعلق بالمأمور المتبوع من حيث الإطلاق ، ولم يرد عليه أمر آخر يقتضي بعض الصفات أو الكيفيات التوابع ؛ فقد عرفنا من قصد الشارع أن المشروع عمل مطلق ، لا يختص في مدلول اللفظ بوجه دون وجه، ولا وصف دون وصف ؛ فالمخصص له بوجه دون وجه أو وصف دون وصف لم يوقعه على مقتضى الإطلاق ؛ فافتقر إلى دليل يدل على ذلك التقييد ، أو صار مخالفًا لمقصود الشارع . [19]
ويقول عن المقيدات : إذا كانت العبادة مشروطة بشرط فيعمل بها دون شرطها لم تكن عبادة على وجهها وصارت بدعة كالمخل قصدا بشرط من شروط الصلاة مثل استقبال القبلة أو الطهارة أو غيرها فحيث عرف بذلك وعلمه فلم يلتزمه ودأب على الصلاة دون شرطها فذلك العمل من قبيل البدع . [20]

فالمقيدات شرعا التى يعد إطلاقها رأى فى التشريع ، فهى كسائر العبادات التى هى فى الأصل مشروعة أى أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم ، إلا أن الشارع قيدها بقيود ، فإطلاق مشروعيتها من غير تقييد يخرجها عن حدها الذى حد لها ، ويخرجها عن أصل شرعيتها ، كما أنه يعد رأى فى التشريع .
ونقصد بالمقيدات هنا شروط الإيجاب أو الوجوب ، التى إن تخلف منها شرط فإن هذا يعنى تخلف الحكم بالوجوب كسقوط فرضية الصلاة بانتفاء النقاء بالحيض والنفاس ، بل وتغير حكمها فيحرم فعلها أثناء الحيض والنفاس ، وكالحج فى غير وقته الذى شُرع فيه ، فبالإضافة إلى أن هذا الحج لا يصح بلا شك ، فهو عبادة غير مشروعة ؛ وذلك لأن الشارع قيدها بقيود ، فإطلاق مشروعيتها من غير تقييد يخرجها عن أصل شرعيتها ، كما أنه يعد رأى فى التشريع .       








وقد يسأل سائل هنا : هل كون هذه الصلاة من العبادات المشروعة فى الأصل يعنى أن يثاب العامل بها من جهة ما هو مشروع ، ويعاتب من جهة ما هو غير مشروع ، كالقول بصحة الصلاة الواقعة في وقت الكراهية ، أو صحة الصوم الواقع يوم العيد ؟

نقول : أن هناك فرق بين صلاة الجمعة والعيدين فى دار الكفر ، وبين الصلاة فى الأوقات المنهى عنها ، وذلك من ثلاثة أوجه ،
الأول : إن ترك النبى صلى الله عليه وسلم صلاة الجمعة والعيدين فى دار الكفر وكذلك الخلفاء الراشدين من بعده لم يكن لورود النهى عن ذلك ، وإنما كان اتباعا للمأمور به إذ أن هذه الصلوات إنما شُرعت ابتداءا مقيدة بأوصاف لا تنفك عنها ، كما أن الحج يوم ما شُرّع كان مقيدا بأوصاف تتعلق بالزمان والمكان لا تنفك عنه ، فإطلاقها وعدم التقيد بتلك الأوصاف المأمور بها ، والتى كانت سببا فى مشروعيتها يعد سببا فى انقلاب العمل المشروع غير مشروع ، فكيف يُثاب على غير المأمور به ؟!

وهذا بخلاف الصلاة فى الأوقات المنهى عنها إذ غاية فاعلها أن يعد فاعلا لمشروع فى الوقت المنهى عنه .








الوجه الثانى : إن النهى عن الصلاة فى بعض الأوقات إنما هو راجع إلى أمر منفك منفرد عن العبادة ، وهذا كثير كصيام أيام العيد والصلاة مع مدافعة الأخبثين أو بحضرة طعام ، فهذا الذى قد يثاب فيه المرء من جهة و يأثم أو يُكره فعله من جهة أخرى ، كما هى الحال فى الصلاة فى الأرض المغصوبة .        

يقول الإمام الشاطبى :
فإن قيل : فالبدع الإضافية هل يعتد بها عبادات حتى تكون من تلك الجهة متقرباً بها إلى الله تعالى أم لا تكون كذلك ؟
فالجواب : أن حاصل البدعة الإضافية أنها لا تنحاز إلى جانب مخصوص في الجملة ، بل ينحاز بها الأصلان - أصل السنة وأصل البدعة - لكن من وجهين . وإذا كان كذلك اقتضى النظر السابق للذهن أن يثاب العامل بها من جهة ما هو مشروع ، ويعاتب من جهة ما هو غير مشروع . إلا أن هذا النظر لا يتحصل لأنه مجمل .
والذي ينبغي أن يقال في جهة البدعة في العمل : لا يخلو أن تنفرد أو تلتصق وإن التصقت فلا تخلو أن تصير وصفاً للمشروع غير منفك ، إما بالقصد أو بالوضع الشرعي العادي أو لا تصير وصفاً ،........
فأما القسم الأول : وهو أن تنفرد البدعة عن العمل المشروع فالكلام فيه ظاهر مما تقدم إلا إن كان وضعه على جهة التعبد فبدعة حقيقية وإلا فهو فعل من جملة الأفعال العادية لا مدخل له فيما نحن فيه فالعبادة سالمة والعمل العادي خارج من كل وجه مثاله الرجل يريد القيام إلى الصلاة فيتنحنح مثلا أو يتمخط أو يمشي خطوات أو يفعل شيئا ولا يقصد بذا وجها راجعا إلى الصلاة وإنما يفعل ذلك عادة أو تقززا فمثل هذا لا حرج فيه في نفسه ولا بالنسبة إلى الصلاة وهو من جملة العادات الجائزة إلا أنه يشترط فيه أيضا أن لا يكون بحيث يفهم منه الانضمام إلى الصلاة عملا أو قصدا فإنه إذ ذاك يصير بدعة وسيأتي بيانه إن شاء الله

وكذلك أيضا إذا فرضنا أنه فعل قصد التقرب مما لم يشرع أصلا ثم قام بعده إلى الصلاة المشروعة ولم يقصد فعله لأجل الصلاة ولا كان مظنة لأن يفهم منه انضمامه إليها فلا يقدح في الصلاة وإنما يرجع الذم فيه إلى العمل به على الانفراد ومثله لو أراد القيام إلى العبادة ففعل عبادة مشروعة من غير قصد الانضمام ولا جعله عرضة لقصد انضمامه فتلك العبادتان على أصالتهما وكقول الرجل عند الذبح أو العتق : اللهم منك وإليك على غير التزام ولا قصد الانضمام وكقراءة القرآن في الطواف لا بقصد الطواف ولا على الالتزام فكل عبادة هنا منفردة عن صاحبتها فلا حرج فيها .
وعلى ذلك نقول : لو فرضنا أن الدعاء بهيئة الاجتماع وقع من أئمة المساجد في بعض الأوقات للأمر يحدث عن قحط أو خوف من ملم لكان جائزا لأنه على الشرط المذكور إذ لم يقع ذلك على وجه يخاف منه مشروعية الانضمام ولا كونه سنة تقام في الجماعات ويعلن به في المساجد كما دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم دعاء الاستسقاء بهيئة الاجتماع وهو يخطب وكما أنه دعا أيضا في غير أعقاب الصلوات على هيئة الاجتماع لكن في الفرط وفي بعض الأحايين كسائر المستحبات التي لا يتربص بها وقتا بعينه وكيفية بعينها ...................

فصل وأما القسم الثاني : وهو أن يصير العمل أو غيره كالوصف للعمل المشروع إلا أن الدليل على أن العمل المشروع لم يتصف في الشرع بذلك الوصف فظاهر الأمر انقلاب العمل المشروع غير مشروع . ويبين ذلك من الأدلة عموم قوله عليه الصلاة والسلام : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " وهذا العمل عند اتصافه بالوصف المذكور عمل ليس عليه أمره عليه الصلاة والسلام ، فهو إذاً رد ، كصلاة الفرض مثلاً إذا صلاها القادر الصحيح قاعداً أو سبح في موضع القراءة ، أو قرأ التسبيح ، وما أشبه ذلك .
وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة بعد الصبح ، وبعد العصر ، ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها ، فبالغ كثير من العلماء في تعميم النهي ، حتى عدوا صلاة الفرض في ذلك الوقت داخلاً تحت النهي ، فباشر النهي الصلاة لأجل اتصافها بأنها واقعة في زمان مخصوص ، كما اعتبر فيها الزمان باتفاق في الفرض ، فلا تصلى الظهر قبل الزوال ، ولا المغرب قبل الغروب .
ونهى عليه الصلاة والسلام عن صيام الفطر والأضحى ، والاتفاق على بطلان الحج في غير أشهر الحج . فكل من تعبد لله تعالى بشيء من هذه العبادات الواقعة في غير أزمانها تعبد ببدعة حقيقية لا إضافية ، فلا جهة لها إلى المشروع بل غلبت عليها جهة الابتداع ، فلا ثواب فيها على ذلك التقدير ، فلو فرضنا قائلاً يقول بصحة الصلاة الواقعة في وقت الكراهية ، أو صحة الصوم الواقع يوم العيد ، فعلى فرض أن النهي راجع إلى أمر لم يصر للعبادة كالوصف بل الأمر منفك منفرد ـ حسبما تبين بحول الله .
ويدخل في هذا القسم ما جرى به العمل في بعض الناس كالذي حكى القرافي عن العجم في اعتقاده كون صلاة الصبح يوم الجمعة ثلاث ركعات ، فإن قراءة سورة السجدة لما التزمت فيها وحوفظ عليها اعتقدوا فيها الركنية فعدوها ركعة ثالثة ، فصارت السجدة إذاً وصفا لازماً وجزءاً من صلاة صبح الجمعة ، فوجب أن تبطل .
وعلى هذا الترتيب ينبغي أن تجري العبادات المشروعة إذا خصت بأزمان مخصوصة بالرأي المجرد ، من حيث فهمنا تلبساً بالأعمال على الجملة ، فصيروا ذلك الزائد وصفاً فيه مخرج له عن أصله ، وذلك أن الصفة مع الموصوف من حيث هي صفة له لا تفارقه هي من جملته .
وذلك لأنا نقول : إن الصفة هي عين الموصوف إذا كانت لازمة له حقيقةً أو اعتباراً ، ولو فرضنا ارتفاعها عنه لارتفع الموصوف من حيث هو موصوف بها ، كارتفاع الإنسان بارتفاع الناطق أو   الضاحك ، فإذا كانت الصفة الزائدة على المشروع على هذه النسبة صار المجموع منهما غير مشروع ، فارتفع اعتبار المشروع الأصلي ..........
واعلموا أنه حيث قلنا : إن العمل الزائد على المشروع يصير وصفا لها أو كالوصف فإنما يعتبر بأحد أمور ثلاثة : إما القصد وإما بالعادة وإما بالشرع .

أما بالقصد : فظاهر ، بل هو أصل التغيير فى المشروعات بالزيادة والنقصان .
أما بالعادة فكالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان فإن بينه وبين الذكر المشروع بونا بعيدا إذ هما كالمتضادين عادة وكالذي حكى ابن وضاح عن الأعمش عن بعض أصحابه قال : مر عبد الله برجل يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول : سبحوا عشرا وهللوا عشرا : فقال عبد الله : إنكم لأهدى من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم أو أضل بل هذه ( يعني أضل ) وفي رواية عنه أن رجلا كان يجمع الناس فيقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله . قال : فيقول القوم .
ويقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله . قال : فيقول القوم .
قال : فمر بهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال لهم : ( هديتم لما لم يهد له نبيكم ! وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة ) .
وذكر له أن ناسا بالكوفة يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم بين يديه كوما من حصى ، قال : فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد ويقول :
( لقد أحدثتم بدعة وظلما وقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم علما ) .
فهذه أمور أخرجت الذكر المشروع عن وصفه المعتبر شرعا إلى وصف آخر ، فلذلك جعله بدعة ، والله أعلم .

وأما الشرع فكالذي تقدم من النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة أو الصلوات المفروضة إذا صليت قبل أوقاتها فإنا قد فهمنا من الشرع القصد إلى النهي عنها والمنهي عنه لا يكون متعبدا به وكذلك صيام يوم العيد ................
كما حكى ابن وضاح عن عبد الرحمن أبي بكرة قال : كنت جالسا عند الأسود بن سريع وكان مجلسه في مؤخر المسجد الجامع فافتتح سورة بني إسرائيل حتى بلغ : ( وكبره تكبيرا ) فرفع أصواتهم الذين كانوا حوله جلوسا فجاء مجالد بن مسعود متوكئا على عصاه فلما رآه القوم قالوا : مرحبا اجلس                قال : ما كنت لأجلس إليكم وإن كان مجلسكم حسنا ولكنكم صنعتم قبلي شيئا أنكره المسلمون ،          فإياكم وما أنكر المسلمون فتحسينه المجلس كان لقراءة القرآن وأما رفع الصوت فكان خارجا عن ذلك فلم ينضم إلى العمل الحسن حتى إذا انضم إليه صار المجموع غير مشروع .

ويشبه هذا ما في سماع ابن القاسم عن مالك في القوم يجتمعون جميعا فيقرؤون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية فكره ذلك وأنكر أن يكون من عمل الناس .

وسئل ابن القاسم أيضا عن نحو ذلك فحكى الكراهية عن مالك ونهى عنها ورآها بدعة .
وقال في رواية أخرى عن مالك : وسئل عن القراءة بالمسجد فقال : لم يكن بالأمر القديم وإنما هو شيء أحدث ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها والقرآن حسن .

قال ابن رشد : يريد التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كله ما يجامع قرطبة إثر صلاة الصبح ( قال ) : فرأى ذلك بدعة .

فقوله في الرواية : والقرآن حسن يحتمل أن يقال : إنه يعني أن تلك الزيادة من الاجتماع وجعله في المسجد منفصل لا يقدح في حسن قراءة القرآن ويحتمل - وهو الظاهر - أنه يقول : قراءة حسن على غير ذلك الوجه بدليل قوله في موضع آخر : ما يعجبني أن يقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الأسواق والطرق فيريد أنه لا يقرأ إلا على النحو الذي يقرؤه السلف وذلك يدل على أن قراءة الإدارة مكروهة عنده فلا تفعل أصلا وتحرز بقوله : والقرآن حسن من توهم أنه يكره قراءة القرآن مطلقا فلا يكون في كلام مالك دليل على انفكاك الاجتماع من القراءة والله أعلم . [21]


وكذلك أداء صلاة الجمعة والعيدين فى دار الكفر يخرجها عن أصل شرعيتها ، فهى وإن كانت من العبادات التى هى فى الأصل مشروعة أى أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم ، إلا أن الشارع قيدها بقيود - من الإمام والمصر والجماعة - فإطلاق مشروعيتها من غير تقييد يخرجها عن حدها الذى حد  لها ، كما أنه يعد رأى فى التشريع .

الوجه الثالث :
إن المصلى لصلاة الجمعة أو العيدين فى دار الكفر لا شك أنه يفعلها على اعتقاد أنها سنة ، وهذا يجعلها من البدع الحقيقية ، لأنها صارت كالسبب الموضوع للعمل بما جاءت السنة بتركه ، و وضع الأسباب للشارع لا للمكلف ، والشارع عندما أمر بهما لم يأمر بهما إلا وهما مقيدتان بقيود فكان هذا هو سبب العمل بها وجعلها مشروعة ، فإن أطلقت من قيودها وعمل بها على اعتقاد أنها سنة ، فهذا يعنى زوال سبب مشروعيتها ، ولصارت من هذا القبيل غير مشروعة .

يقول الشاطبى : ... أن البدعة من حيث قيل فيها : أنها طريقة في الدين مخترعة - إلى آخره - يدخل في عموم لفظها البدعة التركية كما يدخل فيه البدعة غير التركية فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريما للمتروك أو غير تحريم فإن الفعل - مثلا - يكون حلالا بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه أو يقصد تركه قصدا ،  فبهذا الترك إما أن يكون لأمر يعتبر مثله شرعا أو لا فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب بتركه كالذي يحرم على نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك فلا مانع هنا من الترك : بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض فإن الترك هنا مطلوب وإن قلنا بإباحة التداوي فالترك مباح ،
فهذا راجع إلى العزم على الحمية من المضرات وأصله قوله عليه الصلاة و السلام : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج " - إلى أن قال - : " ومن لم يستطع فعليه بالصوم " الذي يكسر من شهوة الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت ،
وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين وكتارك المتشابه حذرا من الوقوع في الحرام واستبراء للدين والعرض ،

وإن كان الترك لغير ذلك فإما أن يكون تدينا أو لا فإن لم يكن تدينا فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك ولا يسمى هذا الترك بدعة إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة: إن البدعة تدخل في العادات وأما على الطريقة الأولى فلا يدخل لكن هذا التارك يصير عاصيا بتركه أو باعتقاده التحريم فيما أحل الله ،

وأما إن كان الترك تدينا فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين إذ قد فرضنا الفعل جائزا شرعا فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع التحليل وفي مثله نزل قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } فنهى أولا عن تحريم الحلال ثم جاءت الآية تشعر بأن ذلك اعتداء لا يحبه الله ، وسيأتي للآية تقرير إن شاء الله

لأن بعض الصحابة هم أن يحرم على نفسه النوم بالليل وآخر الأكل بالنهار وآخر إتيان النساء وبعضهم هم بالاختصاء مبالغة في ترك شأن النساء وفي أمثال ذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم :
" من رغب عن سنتي فليس مني "

فإذا كل من منع نفسه من تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو خارج عن سنة النبي صلى الله عليه و سلم والعامل بغير السنة تدينا هو المبتدع بعينه .



فإن قيل : فتارك المطلوبات الشرعية ندبا أو وجوبا هل يسمى مبتدعا أم لا ؟
 فالجواب : أن التارك للمطلوبات على ضربين :
 أحدهما : أن يتركها لغير التدين إما كسلا أو تضييعا أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية فهذا الضرب راجع إلى المخالفة للأمر فإن كان في واجب فمعصية وإن كان في ندب فليس بمعصية إذا كان الترك جزئيا وإن كليا فمعصية حسبما تبين في الأصول .

والثاني : أن يتركها تدينا فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع الله                   ومثاله أهل الإباحة القائلين بإسقاط التكاليف إذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذي حدوه ،
فإذا قوله في الحد : طريقة مخترعة تضاهي الشرعية يشمل البدعة التركية كما يشمل غيرها لأن الطريقة الشرعية أيضا تنقسم إلى ترك وغيره ،

وسواء علينا قلنا : إن الترك فعل أم قلنا : إنه نفي الفعل الطريقتين المذكورتين في أصول الفقه
وكما يشمل الحد الترك يشمل أيضا ضد ذلك ، وهو ثلاثة أقسام :
قسم الاعتقاد وقسم القول وقسم الفعل فالجميع أربعة أقسام
وبالجملة فكل ما يتعلق به الخطاب الشرعي يتعلق به الابتداع ، والله أعلم . [22]






خلاصة الأمر :

·       أن العبادات المتقرب بها إلى الله كما تكون أقوالا وأفعالا ، فكذلك تكون بترك ما تركه النبى صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال ، فإن تركه صلى الله عليه وسلم سنة كما أن فعله سنة ،                                            وكما أنه لا يمكن أن يُستحب ترك ما فعله ، فكذلك لا يمكن أبدا أن يُستحب فعل ما تركه                  ولا فرق .

·       أن كلا من السنة التركية والبدعة التركية يكون الترك فيهما تدينا ،                                            إلا أن الترك الأول مشروع من جهة أن العبادات توقيفية فلا يجوز التقرب إلى الله إلا بما شرّع ، سواء كان هذا الترك تركا لما لا يعد أصله مشروعا ، أو تركا لما كان أصله مشروع ولكنه شُرع مقيدا بأوصاف لا تنفك عنه ، فلا تصير العبادة عبادة مشروعة يجوز التقرب بها إن لم تتحقق أوصافها المقيدة لها ، فمن أطلقها من قيودها وعمل بها على اعتقاد أنها سنة يعد مبتدعا ،                                                                                                        وهذا بخلاف الترك الثانى فإنه ترك غير مشروع ؛ لأن تارك المطلوبات الشرعية ندبا أو وجوبا يعد مبتدعا حيث تدين بضد ما شرّع الله .

          
              سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك


[1] لاحب محجته : واضح دلائله .
[2] يلاحظ أن الغلبة لا تكون دائما دليلا على الباطل و كذلك الحق ، كما أن الشاذ المقهور المضطهد ليس دائما هو الحق فقد يكون الباطل أيضا ، ونحن نقرر ذلك لأن بعض الناس إذا أرادوا إثبات صحة ما ذهبوا إليه وكان الغالب مخالف لهم تجدهم يستدلون بمعانى الغربة وأنك إن اتبعت أكثر من فى الأرض يضلوك عن سبيل الله ، ويكون ذلك فى حقيقته شذوذا عن المنهج القويم والطريق المستقيم مما أدى إلى مخالفة الكثير من الناس لهم ولاسيما إن كان ما يقولونه ظاهر البطلان لا يقول به مسلم ولا عاقل ، وإذا كان غالب الناس موافقون لهم تجدهم يستدلون بمعانى الجماعة وأن الحق ظاهر واضح المعالم ، وإنما يكون ذلك الاجتماع بسبب موافقة ما يقولونه للألفة والعادة والأهواء وجريانا للمصالح مخافة انقطاعها وانتصارا لمذهب بعينه أو لإنسان محاباة وحمية ،  ومحال أن يكون موافقيهم من أهل العلم والاجتهاد لذا فهم كثر ، فليُنتبه إلى هذه الأوصاف وأنها ليست هى الحاكمة ، وإنما يجب الرجوع إلى الدليل الشرعى المطبق على مناطه الصحيح ؛ وذلك بمعرفة العلل المؤثرة فى الأحكام من غيرها من الأوصاف التى تكون فى كثير من الأحيان حكما وأراءا غير مؤثرة فهى ليست عللا تبنى عليها الأحكام الشرعية .


[2] وأيضا فإن من وافقه فهو عنده المبتغى حق المجتهد ، ومن خالف فهو المقلد التابع .
وياليتنا نتيقن جميعا بأن " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور " فاطر : 10 ، أي : فليتعزز بطاعة الله عز وجل ؛ لأن من كان الله معه فمن ضده ومن كان الله ضده فمن معه ، فالاعتزاز لا يكون إلا بالدليل الشرعى - وذلك إذا ما اقترن به صحة الفهم ، وذلك لأن المبتدع كما يقول الإمام الشاطبى عنه : ( يأبى أن ينسب إليه الخروج عن الشرع إذ هو مدع أنه داخل بما استنبط تحت مقتضى الأدلة لكن تلك الدعوى غير صحيحة .. فإن أدلته شبه ليست بأدلة إن ثبت أنه استدل ) - لا بموافقة الرجال،
وأن الخزى والعار بمخالفة الدليل الشرعى لا بمخالفة الرجال كائنا من كان ، فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله والأخذ بما جاء به ، فإن هم خالفوا ما جاء به يكونون بذلك قد خالفوا من لو أطاعونه وخالفوا جميع الخلق ما سألهم الله عن خالفة أحد .
وقد قال الإمام الشاطبى أيضا فى مقدمته : و كل صاحب مخالفة فمن شأنه أن يدعو غيره إليها ، ويحض سواه عليها ، إذ التأسي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلة ، وبسببه تقع من المخالف المخالفة ، وتحصل من الموافق المؤالفة ، ومنه تنشأ العدواة والبغضاء للمختلفين .

[4] فى المخطوطة بالأردبيس ، والدردبيس هى الداهية .
[5] الاعتصام 24:11
[6] إعلام الموقعين 391:389/2
[7] مصنف ابن أبى شيبة 101/2  ، مصنف عبد الرازق301/3
[8] مصنف ابن أبى شيبة 101/2
[9] نيل الأوطار 232/3
[10] تفسير النسفى 2/2
[11] مجموعة الفتاوى 355/10
[12] المبسوط  310/2
[13] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 19/3
[14] المصدر السابق 85/3
[15] مجموعة الفتاوى 186:179/24
[16] الاعتصام 219/1
[17] المصدر السابق 297/1
[18] الاعتصام 251
[19] الموافقات 148:147/3
[20] الاعتصام 220/1
[21] الاعتصام 285:279
[22] الاعتصام 30:29