martes, 14 de junio de 2011

تتمة الرسالة : عقيدة التحاكم بين الجفاء و الافتراء




-
الشبهة العاشرة : كلام ابن القيم فى م
دارج السالكين :-

«وأما الرضا بنبيه رسولًا فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه؛ فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره؛ ولا يرضى بحكم غيره ألبته، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقامه، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم. وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور» اهـ .
ووجه استدلال من يروِّج لهذه الشبهة أنَّ ابن القيم رحمه الله يرى جواز التحاكم للطاغوت فى حالة الضرورة !!.

كلام ابن القيم يوضح بعضه بعضه :
قال ابن القيم رحمه الله : (( الخامس أن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم ولا سوغوه بتة بل غاية ما نقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلدوه وهذا فعل أهل العلم وهو الواجب فإن التقليد إنما يُباح للمضطر ، وأما من عَدل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد ، فهو كمن عدل إلى الميتة مع قدرته على المذكَّى ، فإن الأصل أن لا يُقبل قول الغير إلا بدليل عند الضرورة فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم )) انظر : أعلام الموقعين ، باب الاتباع والتقليد ، فصل المقلدون يتضاربون في أقوالهم ، جـ2 ، صـ 260
وقال ابن القيم رحمه الله : (( قال الشافعي قال لي قائل دُلَّني على أن عمر عمل شيئا ثم صار إلى غيره لخبر نبوي ، قُلتُ له حدثنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيب أن عمر كان يقول الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها ، حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم  - كتب إليه أن يورِّث امرأة الضبابي من ديته ، فرجع إليه عمر وأخبرنا ابن عيينة عن عمرو وابن طاوس أن عمر قال أذكر الله امرأ سمع من النبي ـ صلى الله عليه وسلم  - في الجنين شيئا فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - بعرة فقال عمر لو لم نسمع فيه هذا لقضينا فيه بغير هذا أو قال إن كدنا لنقضي فيه برأينا فترك اجتهاده رضي الله عنه للنص وهذا هو الواجب على كل مسلم إذ اجتهاد الرأي إنما يباح للمضطر كما تباح له الميتة والدم عند الضرورة فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ، وكذلك القياس إنما يصار إليه عند الضرورة قال الإمام أحمد سألت الشافعي عن القياس فقال عند الضرورة ذكره البيهقي في مدخله )) . انظر : أعلام الموقعين ، باب الاتباع والتقليد ، فصل الأصل الخامس القياس للضرورة ، جـ 1،  صـ 32 .
و قال رحمه الله أيضا :  (( الحالة الثانية أن يكون قد سأل عن الحادثة قبل وقوعها فهذا لا يجب على المفتى أن يجيبه عنها وقد كان السلف الطيب إذا سُئل أحدهم عن مسألة يقول للسائل هل كانت أو وقعت فإن قال لا لم يجبه وقال دعنا في عافية وهذا لأن الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة تبيحه كما تبيح الميتة عند الاضطرار ، وهذا إنما هو في مسألة لا نص فيها ولا إجماع فإن كان فيها نص أو إجماع فعليه تبلغيه بحسب الإمكان فمن سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار هذا إذا أمن المفتى غائله الفتوى فإن لم يأمن غائلتها وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها امسك عنها ترجيحاً لدفع أعلى المفسدتين )) . انظر : أعلام الموقعين ، فصل فوائد تتعلق بالفتوى ، الخاتمة .

فمراد ابن القيم رحمه الله أنه لا يجوز اللجوء إلى التقليد و القياس و هو الرأي مع وجود حكم الله تعالى أما مع عدم العلم بحكم الله تعالى في المسألة فيجوز اللجوء إلى القياس و التقليد كما يجوز أكل الميتة و الدم و التيمم بالتراب عند عدم وجود الماء .
و هنا مسألة يجب التنبيه عليها و هي أنه يجب أن يعلم لله تعالى في كل حادثة و نازلة حكم ، ولكن قد يخفى على بعض الناس هذا الحكم فيضطر إلى القياس أو التقليد و لا يقال أن هناك نوازل ليس لله فيها حكم  قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }الأعراف54
و قال تعالى : {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ }الأنعام154 فإذا كان هذا في كتاب موسى فمن باب أولى أن يكون كذلك كتاب الله تعالى القرآن الذي هو خاتم الكتب و أفضلها و المهيمن عليها و ناسخها و الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و الذي توكل الله تعالى بحفظه .
قال تعالى : {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }النحل89
وقال تعالى : {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }العنكبوت51
لذا تجد بعض المسائل يَحتج بعض أهل العلم فيها بالقياس ، ثم تجد أن غيرهم يأتي بدليل نقلي في المسألة ، فالأول احتج بالقياس لما لم يجد نصا من كتاب أو سنة أو إجماع ، فلجأ إلى القياس ، والآخر وفقه الله تعالى إلى معرفة النص ، ولا تعارض بين النص والقياس .
 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (( ومن كان متبحرًا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة‏ ، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم ، كما ذكرناه من الأمثلة، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر كما يدل النص على ذلك ، فإن الله حرم الخمر؛ لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعني، وهذا المعني موجود في جميع الأشربة المسكرة، لا فرق في ذلك بين شراب وشراب‏.‏ فالفرق بين الأنواع المشتركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح ، كما هو خروج عن موجب النصوص )) اهـ . انظر : مجموع الفتاوى ، باب أصول الفقه ، فصل القول بأن النصوص لاتفى بعشر معشار الشريعة ، جـ4 ، صـ 255
و كلام ابن القيم رحمه الله هنا في مسألة تنقيح المناط ، فالواجب على العالم إذا نزلت به نازلة أو سُئلَ عن مسألة أن يلجأ إلى الكتاب و السنة و الإجماع ، فإن لم يعلم دليل في المسألة جاز له حينها التقليد إن كان قادراً على الاستدلال إن احتاج إلى التقليد ، كما هو أصح أقوال العلماء في جواز تقليد القادر على الاستدلال إن احتاج له أو كان عامياً لا يستطيع أن يستدل ، وهذا كله عند ابن القيم من باب الاضطرار لا من باب الاختيار ، فمن لم يحتاج إلى التقليد كمن عنده دليل في المسألة أو أن السؤال عن مسألة لم تقع و لا يحتاج فيها إلى التقليد لا يجوز له التقليد ، و كذلك القياس حكمه حكم التقليد في الحرمة و الجواز عند الاضطرار ، و كما قلنا أن هذا في تنقيح المناط ، والمراد هنا البحث عن دليل نقلي من كتاب أو سنة أو إجماع يدل على حكم هذه المسألة حتى نعرف حكم المسألة ، فإن لم نجد و نحتاج إلى معرفة حكم في المسألة جاز لنا حينها التقليد أو القياس .
أما مسألتنا في التحاكم فهي من باب تحقيق المناط فتحقيق المناط معرفة الحكم الشرعي ثابت إما بكتاب أو سنة أو إجماع فإن المسألة معروف حكمها عندنا في باب تحقيق المناط و عندنا واقعة تحتاج إلى حكم فهنا نحاول أن نعرف ما هو الحكم الشرعي الموافق لهذه الحادثة فإذا وافق الحكم الشرعي هذه الواقعة و المحل لا يجوز أن يلجأ إلى القياس أو التقليد . لأن حكم الله تعالى الموافق للواقعة ثابت فمن خالف حكم الله تعالى و حكم بخلاف حكم الله تعالى مع علمه بحكم الله تعالى فهذا كافر و ليس بمسلم .
فأحكام الطواغيت اليوم لا نختلف أنها عندنا باطلة نعلم يقيناً بطلانها و مخالفتها للشرع ثم نطلب التحاكم إلى هذه الأحكام المخالفة للشرع فهذا هو التحاكم إلى الطاغوت الذي حكم الله تعالى بكفر من وقع فيه ، لذا قال ابن القيم رحمه الله ( ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه لا يرضى في ذلك بحكم غيره ولا يرضى إلا بحكمه ) و من تحاكم إلى الطاغوت غير مكره فقد رضي بحكم غير الله فالواجب عليه عدم التحاكم إلى أحكام الطواغيت إلا أن يكون مكرها .
قال ابن القيم رحمه الله : (( أن هؤلاء الذين لم يكتفوا بكتابه حتى سلكوا بزعمهم طريقة العقل وعارضوه به وقدَّمُوه عليه من جنس الذين لم يكتفوا به سبحانه إلهاً حتى جعلوا له أندادا يعبدونهم كما يعبدون الله بل أولئك لم يقدموا أندادهم على الله فهؤلاء جعلوا لله نِداً يطيعونه ويعظمونه ويعبدونه كما يعظمون الله ويعبدونه وهؤلاء جعلوا لكتابه نِداً يتحاكمون إليه ويقبلون حكمه ويقدمونه على حكم كتابه بل الأمران متلازمان فمن لم يكتف بكتابه لم يكتف به فمتى جعل لكتابه نِداً فقد جعل له نِداً  لا يكون غير ذلك البتة
، أفلا ترى من عارض الوحي برأيه وجعله نِداً له إلا مشركاً بالله قد اتخذ من دون الله أندادا ولهذا كان مرض التعطيل ومرض الشرك أخوين متصاحبين لا ينفك أحدهما عن صاحبه ، فإن المعطل قد جعل آراء الرجال وعقولهم نِداً لكتاب الله ، والمشرك قد جعل ما يعبده من الأوثان نِداً له ، ومما يبين تلازم التعطيل والشرك أن القلوب خُلِقت متحركة طالبة للتأله والمحبة فهي لا تسكن إلا لمحبوب تطمئن إليه وتسكن عنده يكون هو غاية محبوبها ومطلوبها ولا قرار لها ولا طمأنينة ولا سكون بدون هذا المطلوب والظفر به والوصول إليه ، ولو ظفرت بما ظفرت به سواه لم يزدها ذلك إلا فاقةً وفقراً وحاجةً وقلقاً واضطراباً )) اهـ انظر : الصواعق المرسلة ، فصل الطريق التاسع والعشرون ، جـ 4
و قال رحمه الله أيضا :  (( ومنها أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم وأن عاقبته أحسن عاقبة ، ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حَكَّمَ الطاغوت وتحاكم إليه والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى الطاغوت ومتابعته )) اهـ انظر : أعلام الموقعين ، فصل انتفاء الإيمان بانتفاء الرد ، جـ 1،  صـ 50 .
و من المعلوم أن التحاكم إلى الطواغيت كُفرٌ بنص الكتاب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً }النساء60 .
و أنَّ الكفر الظاهر قولاً أو فعلاً لا يجوز إلا عند الإكراه قال ابن القيم رحمه الله : (( ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الإغراض إلا المُكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان )) اهـ
فلو أن عالماً من علماء المسلمين يعلم حكم الله تعالى في مسالة معينة ثم خالفه إلى غيره و أفتى خلاف حكم الله تعالى لكفر مع علمه بحكم الله تعالى .
 قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : (( وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق حكم الحاكم ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه، بل حكم الحاكم العالم العادل يلزم قومًا معينين تحاكموا إليه في قضية معينة ، لا يلزم جميع الخلق ، ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يُقلِد حاكمًا لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء ، بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكمًا ، ومتي ترك العالم ما عَلِمَه من كتاب الله وسنة رسوله واتَّبعَ حُكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدًا كافرًا، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏المص كِتَابٌ أُنزِلَ اليكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَي لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ اليكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3‏]
ولو ضُرب وحُبس وأوذي بأنواع الأذي ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره ، كان مستحقًا لعذاب الله بل عليه أن يصبر‏.‏ وإن أوذي في الله فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏
1، 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّي نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏13‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏
وهذا إذا كان الحاكم قد حكم في مسألة اجتهادية قد تنازع فيها الصحابة والتابعون فحكم الحاكم بقول بعضهم وعند بعضهم سنة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم تخالف ما حكم به فعلى هذا أن يتبع  ما علم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأمر بذلك، ويفتي به ويدعو إليه، ولا يُقلِد الحاكم‏.‏ هذا كله باتفاق المسلمين‏‏ )) اهـ انظر : مجموع الفتاوى ، باب العقيدة ، فصل على الجكام ألا يحكموا إلا بالعدل ، جـ 9 ، صـ 277 .
وقال رحمه الله أيضا :  (( والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه؛ أو حرم الحلال المجمع عليه؛ أو بدل الشرع المجمع عليه؛ كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء‏ )) اهـ انظر : مجموع الفتاوى ، باب العقيدة  ، جـ 1 ، صـ 263
فكلام ابن القيم رحمه الله فيمن يؤثر حكم الله تعالى و يطلبه و يتحاكم إليه و يحكم به فأصل الحكم عنده حكم الله تعالى لا غيره ثم أنه بعد بحثه و اجتهاده و استفراغ وسعه لم يجد حكم الله تعالى في المسألة فله عندها أن يلجأ مضطرا إلى التقليد أو القياس لا أن يلجأ إلى حكم الطاغوت مع علمه بحكم الله تعالى أو يلجأ إلى حكم الطاغوت و هو يعلم أنه لم يأخذه من أصول حكم الله تعالى و قواعده .
أما الحال اليوم فأصل الحكم هو حكم الطاغوت لا حكم الله تعالى و لو كان الحكم معلوم من الدين ضرورة بطلانه فالطاغوت لا يمتنع من الحكم به ؛ لأنه لا يرجع إلى كتاب و لا سنة و لا إجماع ، حتى فيما وافق حكم الله تعالى لا يحكم به لأنه من عند الله تعالى و لكن يحكم به لأنه من حكمه و رأيه و اجتهاده لا لأن الله تعالى أمر به و أوجبه و فرضه ، و من يتحاكم إلى الطاغوت لا ينظر إلى حكم الله تعالى أو حكم الطاغوت و يطلبه بل ينظر إلى مصلحته وكيفية تحصيلها فحقيقته مؤثر لمصلحته حتى لو كانت عن طريق الكفر و هو حكم الطاغوت .
ولمزيد من التوضيح ، فإن كلام ابن القيم رحمه الله فيما إذا عدم نص من كتاب أو سنة أو إجماع أما مسألة التحاكم إلى الطاغوت فمسألة منصوص عليها محرمة بالكتاب و السنة و الإجماع و قال رحمه الله : (( وأما الرضا بنبيه رسولًا فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه؛ فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره؛ ولا يرضى بحكم غيره ألبته، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقامه، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه )) .
فمسألتنا تدخل في الرضا بغير حكم الله تعالى مع معرفة حكم الله تعالى في المسألة أو التحاكم إلى الطاغوت مع معرفة أنه يحكم بغير ما أنزل الله أو التحاكم إليه مع عدم النظر في موافقته أو مخالفته لحكم الله فلا يخالف أحد من أهل العلم بحرمة التحاكم إلى الطاغوت و أن التحاكم إلى الطاغوت كفر أكبر مخرج من الملة ، وكلام ابن القيم رحمه الله في مسألة لم يُعلم حكم الله فيها فيجوز عند النوازل الاجتهاد و استفراغ الوسع و استعمال القياس أو التقليد إن لم يسعه الوقت للاجتهاد إن كان عالماً ، فمتى ما علمنا حكم الله في المسألة و أنه حرام بل كفر أكبر مخرج من الملة لا يقال بأنه يجوز لنا قبول غير حكم الله تعالى فإن قبول حكم غير حكم الله تعالى كفر سواء كان في المعينات أو الكليات و الكفر بالإجماع لا يعذر من وقع فيه إلا بالإكراه ، فلا يُقال مثلاً يجوز لمن اضطر إلى قبول حكم خلاف حكم الله تعالى والرضا به ، فيُقال للعالم مثلاً أفتي بحل الخمر وإلا قطعنا راتبك فمثل هذا لا يُعذر فيه إلا بالإكراه ؛ لأنه كُفر أكبر مخرج من الملة ، وكذلك لا يجوز التحاكم إلى الطاغوت لمن قيل له تتحاكم إلى الطاغوت وإلا أخذنا سيارتك أو أخذنا مالك أو قيل له لا تستطيع تحصيل مالك إلا بالتحاكم إلى الطاغوت فمثل هذا ليس بمُكره لأنه يعلم بأنه طاغوت لا يحكم بما أنزل الله تعالى .

وخلاصة ما سبق من كلام ابن القيم :
 أنه لايجوز اللجوء إلى القياس أو التقليد أو الرأى ، مع وجود حكم الله ورسوله .. أما مع عدم العلم بحكم الله تعالى ورسوله فى مسألة معينة ، فيجوز اللجوء إلى القياس أو التقليد أو الرأى.. كما يجوز أكل الميتة أو التيمم بالتراب عند تعذر وجود الماء أو استعماله... فهذا كله إنما يكون من باب الا ضطرار لا الاختيار .              



                                                            
المبحث الرابع
قطوف من كلام أهل العلم حول المسألة

الحافظ بن كثير:-
فى تفسيره لقول الله تعالى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) النساء .
قال: فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك ، فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر . 

 الرازى:ـ
     جاء فى تفسيره لآية النساء 60 وما بعدها قال ـ رحمه الله ـ :-
المسألة الثالثة : مقصود الكلام أن بعض الناس أراد أن يتحاكم إلى بعض أهل الطغيان ولم يرد التحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم . قال القاضي : ويجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر ، وعدم الرضا بحكم محمد عليه الصلاة والسلام كفر ، ويدل عليه وجوه : الأول : انه تعالى قال : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون إيمانا به ، ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله ، كما أن الكفر بالطاغوت إيمان بالله . الثاني : قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } إلى قوله : { وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام .
انظر يرحمنى الله وإياك كيف فرَّق أهل العلم بين التحاكم للطاغوت والرضا بحكم الطاغوت ، وبيَّنوا أنَّ كُل واحدٍ منهما كفرٌ مستقلٌ بذاته .

نظم الدرر للبقاعى :ـ
{ يزعمون أنهم آمنوا } أي أوجدوا هذه الحقيقة وأوقعوها في أنفسهم { بما أنزل إليك } ودل على أن هذا الزاعم المنافق كان من أهل الكتاب قبل ادعاء الإسلام بقوله : { وما } أي ويزعمون أنهم آمنوا بما { أنزل من قبلك } أي من التوراة والإنجيل ، قال الأصبهاني : ولا يستعمل - أي الزعم - في الأكثر إلا في القول الذي لا يتحقق ، يقال : زعم فلان - إذا شك فيه فلم يعرف كذبه أو صدقه ، والمراد أن هؤلاء قالوا قولاً هو عند من لا يعلم البواطن أهل لأن يشك فيه بدليل أنهم { يريدون أن يتحاكموا } أي هم وغرماؤكم { إلى الطاغوت } أي إلى الباطل المغرق في البطلان { وقد } أي والحال أنهم قد { أمروا } ممن له الأمر { أن يكفروا به } في كل ما أنزل من كتابك وما قبله ، ومتى تحاكموا إليه كانوا مؤمنين به كافرين بالله وهو معنى قوله : { ويريد الشيطان } بإرادتهم ذلك التحاكم { أن يضلهم } أي بالتحاكم إليه { ضلالاً بعيداً * } بحيث لا يمكنهم معه الرجوع إلى الهدى.

ابن القيم:
قال فى إعلام الموقعين ، جـ1، صـ50 :
من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه .
ويقول أيضا فى الفوائد، صـ47  :
 لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربي فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكرا .

سليمان بن سحمان :-
قال فى الدرر السنية ، المجلد العاشر ،كتاب حكم المرتد ،وذلك عندما سئل عن التحاكم إلى الطاغوت بحجة الإضطرار ،قال: فمن اعتقد أن تحكيم شريعة الإسلام، يفضي إلى القتال والمخالفة، وأنه لا يحصل الاجتماع والألفة، إلا على حكم الطاغوت، فهو كافر عدو لله ولجميع الرسل؛ فإن هذا حقيقة ما عليه كفار قريش، الذين يعتقدون أن الصواب ما عليه آباؤهم، دون ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
المقام الثاني: أن يقال: إذا عرفت أن التحاكم إلى الطاغوت كفر، فقد ذكر الله في كتابه أن الكفر أكبر من القتل، قال: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، وقال: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}، والفتنة: هي الكفر; فلو اقتتلت البادية والحاضرة، حتى يذهبوا، لكان أهون من أن ينصبوا في الأرض طاغوتا، يحكم بخلاف شريعة الإسلام، التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
المقام الثالث: أن نقول: إذا كان هذا التحاكم كفرا، والنّزاع إنما يكون لأجل الدنيا، فكيف يجوز لك أن تكفر لأجل ذلك؟ فإنه لا يؤمن الإنسان، حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يكون الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين. فلو ذهبت دنياك كلها، لما جاز لك المحاكمة إلى الطاغوت لأجلها، ولو اضطرك مضطر وخيرك، بين أن تحاكم إلى الطاغوت، أو تبذل دنياك، لوجب عليك البذل، ولم يجز لك المحاكمة إلى الطاغوت.أ.هـ
 
حمد بن عتيق :ـ
قال ردًّا على من قاس الاضطرار على الإكراه في الكفر : « قال تعالى : {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} فشرط بعد حصول الضرر أن لا يكون المتناول باغياً ولا عادياً والفرق بين الحالتين لا يخفى على ذي عين ـ ثم يقال أيضاً : وهل في إباحة الميتة للمضطر ما يدل على جواز الردة اختياراً ؟ وهل هذا إلا كقياس تزوج الأخت والبنت بإباحة تزوج الحر المملوكة عند خوف العنت وعدم الطول فقد زاد هذا المشبه على قياس الذين قالوا : {إنما البيع مثل الربا} »
يقول صاحب شرح رسالة تحكيم القوانين :ـ
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : (وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإنْ تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً..} ) يقول تأمل (كيف ذكر النّكِرة ) ماهي النكرة في الآية؟ (هي قوله: "شيء" في سياق الشرط، وهو قوله جلّ شأنه: "فإنْ تنازعتم" المفيد العمومَ فيما يُتصوّر التنازع فيه جنسا وقدرًا) في أي جنس من أجناس التنازع وفي أي قدر أيضا وفي أي أمر كان كبيرا أو صغيرا (ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطا في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله: {إنْ كُنتُم تؤمنون بالله واليوم الآخر}) كلمة شيء هي أعم كلمة في اللغة كما يقول اللغويون ؛ لأنها تطلق على الكبير والصغير وكل ما يمكن أن يطلق عليه ، فهي عامة تماما لأنها جاءت نكرة في سياق الشرط ؛ فمثلا يمكن أن يطلق شيء على الله سبحانه وتعالى كما في قوله عز وجل : "قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم" إذن الله تبارك وتعالى يجوز أن يطلق عليه شيء ، لكن أي شيء هو ؟ هو جلّ وتعالى أعظم وأكبر من كل شيء .
         رأيت الله أكبر كل شيء            محاولة وأكثرهم جنوداً
وكذلك يطلق على أدنى أو أتفه ما يمكن أن يسمى شيئا.
فالقضية الكبرى لو تخاصم اثنان أو تنازعا في مملكة عظيمة ، هذه نقول : إن القضية هذه شيء ، وكذا لو تنازعا في درهم أو ربع درهم لقلنا إنهما قد اختصما وتحاكما أو تنازعا في شيء .
إذن فإذا تنازعتم في أي شيء كائنا أيُّما كان النزاع ، في أسماء الله وصفاته ، أو في الإيمان ، أو في القدر ، أو في أمور العقيدة أو في حكم من الأحكام الفقهية أو في الحقوق والدماء والأعراض والأموال ..إلخ .
إذن كل أجناس وأنواع القضايا تدخل في وجوب التحاكم ورد التنازع فيها إلى الله ورسوله لأنها من ضمن كلمة شيء في قوله :"فإن تنازعتم في شيء" ولهذا قال في الآية الأخرى :"وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" من شيء كائنا ما كان ، فأيضا في هذه الآية نجد الشرط أيضا :"وما اختلفتم" فحكم هذا الشرط "من شيء" ، وتقدمها أيضا الجار لزيادة تأكيد العموم ، وهو التحاكم إلى الله سبحانه وتعالى ورد التنازع إلى الله عز وجل في كل شيء ، بحيث لا يخرج شيء عن ذلك. أهــ .

الشنقيطى :ـ
  جاء فى تفسيره (أضواء البيان) ، جـ1 ، صـ204 ، دار إحياء التراث العربى ، طـ1 ،
قوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله } الآية .
أمر الله في هذه الآية الكريمة ، بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . لأنه تعالى قال : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] وأوضح هذا المأمور به هنا بقوله : { وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله } [ الشورى : 10 ] الآية ، ويفهم من هذه الآية الكريمة أنه لا يجوز التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقد أوضح تعالى هذا المفهوم موبخاً للمتحاكمين إلى غير كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مبيناً أن الشيطان أضلهم ضلالاً بعيداً عن الحق بقوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء : 60 ] وأشار إلى أنه لا يؤمن أحد حتى يكفر بالطاغوت بقوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } [ البقرة : 256 ] .
ومفهوم الشرط أن من لم يكفر بالطاغوت لم يستمسك بالعروة الوثقى وهو كذلك ، ومن لم يستمسك بالعروة الوثقى فهو بمعزل عن الإيمان . لأن الإيمان بالله هو العروة الوثقى ، والإيمان بالطاغوت يستحيل اجتماعه مع الإيمان بالله . لأن الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان بالله أو ركن منه ، كما هو صريح قوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت } [ البقرة : 265 ] الآية. 
   ويقول أيضا ـ نفس المصدر ـ فى تفسير الآية 26 من سورة الكهف:
قوله تعالى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا}. قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر ولا يشرك بالياء المثناة التحتية، وضم الكاف على الخبر، ولا نافية ـ والمعنى: ولا يشرك الله جل وعلا أحداً في حكمه، بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره ألبتة، فالحلال ما أحله تعالى، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه. والقضاء ما قضاه. وقرأه ابن عامر من السبعة. ولا تشرك بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي، أي لا تشرك يا نبي الله. أو لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله جل وعلا، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم. وحكمه جل وعلا المذكور في قوله: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} [18/16] شامل لكل ما يقضيه جل وعلا. ويدخل في ذلك التشريع دخولاً أولياً.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبيناً في آيات أخر. كقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [12/40] وقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ...}الآية [12/67]، وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ...}الآية [42/10]، وقوله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ} [40/12]، وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [28/88]، وقوله تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [28/70]، وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [5/50]. وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [6/114]، إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من هذه الآيات كقوله: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} [18/26]، أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله. وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر. كقوله: فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [6/121] فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم. وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى ـ هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [36/61،60]، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [19/44]، وقوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً} [4/117] أي ما يعبدون إلا شيطاناً، أي وذلك باتباع تشريعه. ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ...}الآية[6/137]. وقد بين النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ...}الآية[9/31]، فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً.
ومن أصرح الأدلة في هذا: أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب. وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [4/60].
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.
ويقول أيضاً في تفسير قوله تعالى :- ) إِنّ هَـَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ  ( [سورة الإسراء: 9]
" ومن هدي القرآن للتي هي أقوم – بيانه أن كل من اتبع تشريعاً غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح مـخرج من الملة الإسلامية..... والعجب ممن يُحَكِّم غير تشريع الله ثم يدعي الإسلام
كماقال تعالي :أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء و كماقال تعاليوَمَن لَّمْ يَحْكُم‏ ‏بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون[سورة المائدة: 44] و قال تعالي أَفَغَيْرَ اللّهِ‏ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً‏ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . سورة الأنعام: 114








المبحث الخامس
مسألة هامه وفيها بيان حدود الإكراه

المسألة هى :
هل يجوز للمسلمين الموجودين فى سجون ومعتقلات الطاغوت اليوم ـ فك الله أسرهم وأزال كربهم وأزَّلَ عدوهم ـ أن يتظلموا  عن طريق محامٍ يرفع شكايتهم ومظلمتهم لمحاكم الطاغوت ؟ .
لا يمكننا أن نُعطى جواباً وحكماً على هذه المسألة ، وفقاً لما نشتهيه أو نظُنه أو نميل إليه .. ثم ننتزع الأدلة من القرآن والسنة وكلام أهل العلم ؛ لمحاولة تدعيم أهوائنا وشهواتنا ؛ لتتشح بالوشاح الشرعى .. بل علينا أن نبسُط الأمر من الوجهة الشرعية ؛ لنُبين حكم الله ورسوله فيه ـ فالله قد أكمل دينه وحد حدوده ـ  ثم نسقطه على واقع المسألة ، فلا نحيف عن طريق أهل الحق ، ولا نَزِّل فَنَضِّل ونُضِّل ـ نسأل الله السلامة ـ .
  قال ابن القيم رحمه الله : (( عادتنا في مسائل الدين كلها دقها وجلها أن نقول بموجبها ولا نضرب بعضها ببعض ولا نتعصب لطائفة على طائفة بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق ونخالفها فيما معها من خلاف الحق لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة ونرجو من الله أن نحيا على ذلك ونموت عليه ونلقى الله به ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ نقلا عن طريق الهجرتين ، فصل مراتب المكلفين )) .


وبناءاً على ما سبق يمكننا الإجابة عن هذا السؤال من خلال هذه الإطروحات :
 ـ ما التوصيف الشرعى لهذا الفعل .. تظلماً أم تحاكماً ؟  إن كان تظلماً ، فما حدوده ؟           .. وإن كان تحاكماً ، فما شروطه ؟  .. ومتى يصير التظلم تحاكماً ؟    ـ متى يجوز التحاكم للطاغوت ؟ .. أفى حالة الضرورة ؟ أم لابد من الإكراه ؟      
ـ ماهية الإكراه ؟.. وما هى أنواعه ؟ .. وما هى حدوده ؟
ـ هل الحبس والسجن إكراه وعذر شرعى لإتيان الكفر ؟
وسيتم الجواب عن كل هذا ـ إن شاء الله ـ فى ضوء محورين رئيسين ، فتدبرهما ..
المحور الأول : التوصيف الشرعى لهذا الفعل ( تظلماً .. أم .. تحاكماً ) :
التظلم لغةً هو /  شكاية الظلم . ( انظر : المعجم الوسيط جـ 2  صـ 57 ، القاموس المحيط  جـ3 صـ 255 ، لسان العرب جـ 12 صـ 373 ) .
والتظلم شرعاً هو /  قيام المتظلم برفع المظلمة إلى من له سلطان أو ولاية ؛ لرفع الظلم عن نفسه أو عن مسلم ، وهى رخصة شرعية . ( انظر : كتابى " رياض الصالحين ، روضة الطالبين " للنووى باب ما يباح من الغيبة ، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز صـ43 ، إحياء علوم الدين للغزالى جـ2 ، صـ 145 )
وشروط التظلم هى /  أن لايكذب المتظلم ، ولا يثنى ، ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولا ( انظر :  إحياء علوم الدين للغزالى جـ2 ، صـ 145 ) .
نفهم من ذلك أن التظلم هو مجرد طلب رفع الظلم عن النفس أو عن الغير من ذوى السلطان والولاية ، وبهذه الصورة يمكن أن نسميه بـ " الاستعانة على تغيير المنكر " .. ( انظر :  تفسير الألوسى ـ روح المعانى ـ الآية 12 ، سورة الحجرات ) .
أما عن علاقة التحاكم بالتظلم .. فاعلم أرشدنى الله وإياك ، أن التحاكم عملية تتم عقب مرحلة التظلم ، فالتحاكم ليس إلا طلب الحكم فى هذه المظلمة ، وهذا ما بينَّاه فى مطلع البحث .
وبهذا نفهم طبيعة السؤال المتقدم ومناطه ، فلو اقتصر الأمر على مجرد رفع هؤلاء المسلمين شِكايتهم وتضرُرِهم " تظلُمهم " للطاغوت أو لأى سلطة داخلية أو خارجية " كمنظمة حقوق الإنسان " وغيرها .. لكان ذلك تظلماً جائزاً شرعاً وداخلاً فى باب الاستعانة والاستنصار بذو السلطان فيما يقدر عليه .. أما توكيل محامى برفع هذا التظلم لمحاكم الطاغوت ، فلا يُعقل عرفاً أو شرعاً أن نُسمِّى ذلك " تظلماً " ؛ لأن دور المحامى ليس إلا طلب الحكم والتقاضى فى هذا التظلم وهذه الخصومة من قبل محاكم الطاغوت ، وهذا هو جوهر التحاكم .
المحور الثانى : متى يجوز التحاكم للطاغوت ؟
إذا علمت أن التحاكم عبادة كسائر العبادات ، إذا صُرفت للطاغوت أو لشرعه أو لمن ينوب عنه  صارت شركاً بالله ، وإذا علمت أن الله تعالى قد أخبرنا على لسان رسوله أن : ( الفتنة أشد من القتل ) ،
قال ابن كثير فى تفسير هذه الآية191 " وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ " من سورة البقرة  : قال أبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع ابن أنس: الشرك أشد من القتل.
يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب :
 والشبهة التي أدخلت عليك، هذه البُضيعة التي في يدك، تخاف تضيع أنت وعيالك، إذا تركت بلد المشركين ، وشاكٌ في رزق الله، وأيضا قرناء السوء ، أضلوك كما هي عادتهم ،
وأنت - والعياذ بالله - تنْزل درجة درجة ، أول مرة في الشك ، وبلد المشركين وموالاتهم ، والصلاة خلفهم ، وبراءتك من المسلمين مداهنةً لهم ، ثم بعد ذلك طِحت على ابن غنام وغيره ، وتبرأت من ملة إبراهيم ، وأشهدتهم على نفسك باتباع المشركين ، من غير إكراه ، لكن خوفاً ومداراةً .

وغاب عنك قوله تعالى ، في عمار بن ياسر وأشباهه : {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}  إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} ، فلم يستثن الله إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ، بشرط طمأنينة قلبه .

والإكراه لا يكون على العقيدة ، بل على القول والفعل ، فقد صرَّح بأنَّ من قال المُكفِّر، أو فعله ، فقد كفر ، إلا المُكره بالشرط المذكور ، وذلك : أنَّ ذلك بسبب إيثار الدنيا ، لا بسبب العقيدة . فتفكَّر في نفسك ، هل أكرهوك ، وعرَّضوك على السيف ، مثل عمار ، أم لا ؟ وتفكَّر : هل هذا بسبب أن عقيدته تغيرت ، أم بسبب إيثار الدنيا ؟ ( انظر الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ في الأجوبة النجدية جـ13 صـ61 )
ويقول الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن :
" الفتنة هي الكفر فلو إقتتلت البادية والحاضرة حتى يذهبوا لكان أهون من أن ينصبوا في الأرض طاغوتاً يحكم بخلاف شريعة الإسلام ".اهـ
ويقول الشيخ سليمان بن سحمان :
( إذا كان هذا التحاكم كفراً والنزاع إنما يكون لأجل الدنيا فكيف يجوز لك أن تكفر لأجل ذلك ؟ فإنه لا يؤمن الإنسان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يكون الرسول أحب أليه من ولده ووالده والناس أجمعين . فلو ذهبت دنياك كلها لما جاز لك المحاكمة إلى الطاغوت لأجلها , ولو أضطرك مُضطر وخيَّرك بين أن تحاكم إلى الطاغوت أو تبذل دنياك لوجب عليك البذل ولم يَجُز لك المحاكمة إلى الطاغوت  ))انتهى
إذا فهمت ما تقدم ، فاعلم أن الشرك بالله لايُباح إلا فى حالة واحدة فقط هى " الإكراه المُلجىء التام " كما يعبر عنه أهل العلم ، ولبيان ذلك نقول مستعنين بالله :
قال تعالى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) النحل.
وَصَحّ عن النبى صلي الله عليه وسلم أنه قال :" إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان،وما استكرهوا عليه "... أخرجه أحمد، وابن ماجة، والطبراني .
(1) تعريف الإكراه :
الإكراه لغةً هو /  حمل الإنسان على أمر يكرهه ( انظر : اللباب في شرح الكتاب لعبدالغني الغنيمي الدمشقي الميداني الحنفي جـ 4 -  صـ 16كتاب الإكراه ) .
والإكراه شرعاً هو / ـ إلزام الغير بما لا يريده وهو يختلف باختلاف المكره والمكره عليه        والمكره به .. ( عمدة القاري ،كتاب الإكراه )
      /  ـ حمل الغير على فعل بما يعدم رضاه دون اختياره لكنه قد يفسده وقد لا يفسده ..( اللباب في شرح الكتاب ،  كتاب الإكراه ) .
/ ـ اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره من غير أن تنعدم به الأهلية.. (المبسوط للسرخسي ، جـ 7 - صـ 269) .
(2) أنواع الإكراه :
 ( ملجىء تام ، غير ملجىء ناقص ) بيان ذلك ..
قال صاحب بدائع الصنائع : " وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ فَنَقُولُ : إنَّهُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ طَبْعًا كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالضَّرْبِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ قَلَّ الضَّرْبُ أَوْ كَثُرَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِعَدَدِ ضَرَبَاتِ الْحَدِّ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ فَلَا مَعْنَى لِصُورَةِ الْعَدَدِ ، وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إكْرَاهًا تَامًّا ، وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ وَهُوَ الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ وَالضَّرْبُ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ ، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ سِوَى أَنْ يَلْحَقَهُ مِنْهُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَعْنِي الْحَبْسَ وَالْقَيْدَ وَالضَّرْبَ ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِكْرَاهِ يُسَمَّى إكْرَاهًا نَاقِصًا . ( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الَّذِي هُوَ مُرَخَّصٌ فَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا وَهُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ ، فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ لَا فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً إلَّا أَنَّهُ سَقَطَتْ الْمُؤَاخَذَةُ " اهـ ( نقلا عن : بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى كتاب الإكراه )
 ومذهب جمهور المسلمين قديماً وحديثاً ، بدعيهم وسنيهم ، أن الكفر الصريح لايُرَّخص إلا فى حالة الإكراه التام الملجىء دون الناقص غير الملجىء .. لكنهم اختلفوا فى شروط وحدود هذا الإلجاء .
قال بن عبد البر فى التمهيد : الإكراه إن كان ملجئاً وهو الذي لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار. اهـ [ جزء 1 -  صفحة 120 ]
وقال الشوكانى فى السيل الجرار: وأما قوله وبالإكراه فوجهه واضح إذا بلغ الحد الذي يصير به الفعل منه كلافعل وأما لو بقي له فعل فلا يجوز كما تقدم في باب الإكراه.اهـ (جـ 4 -  صـ 409 ) .
(3) حد الإكراه الملجىء :
ذهب جمهور أهل العلم من ( المالكية ، الأحناف ، الحنابلة ) إلى أن الإكراه التام الملجىء لايتحقق إلا فى حالات خاصة كالقتل والقطع والضرب الذي يخاف فيه تلف النفس أو العضو قل الضرب أو كثر ، أما الحبس والقيد والضرب الذي لايخاف منه التلف , وليس فيه تقدير لازم سوى أن يلحقه منه الاغتمام البين من هذه الأشياء أعني الحبس والقيد والضرب , فهذا النوع من الإكراه يسمى إكراهاً ناقصاً .
عند الشافعية :
قال ابن حجرالعسقلانى (وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُهَدَّد بِهِ فَاتَّفَقُوا عَلَى الْقَتْل وَإِتْلَاف الْعُضْو وَالضَّرْب الشَّدِيد وَالْحَبْس الطَّوِيل ، وَاخْتَلَفُوا فِي يَسِير الضَّرْب وَالْحَبْس كَيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ .) أهـ،
 وقال أيضا (وَاخْتُلِفَ فِي حَدّ الْإِكْرَاه فَأَخْرَجَ عَبْد بْن حُمَيْد بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ عُمَر قَالَ " لَيْسَ الرَّجُل بِأَمِينٍ عَلَى نَفْسه إِذَا سُجِنَ أَوْ أُوثِقَ أَوْ عُذِّبَ " وَمِنْ طَرِيق شُرَيْح نَحْوه وَزِيَادَة وَلَفْظه " أَرْبَع كُلّهنَّ كُرْه : السِّجْن وَالضَّرْب وَالْوَعِيد وَالْقَيْد " وَعَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ " مَا كَلَامٌ يَدْرَأ عَنِّي سَوْطَيْنِ إِلَّا كُنْت مُتَكَلِّمًا بِهِ " وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور ، وَعِنْد الْكُوفِيِّينَ فِيهِ تَفْصِيل »، (انظر : فتح البارى جـ12) وقد حمل بعض أهل العلم على أن السوطين بحق الصحابي ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ هي مبرحة يُخشى عليه منهما التلف لضعف ونحالة جسمه ..والله أعلم .
وقال النووى فى المجموع : قال الشافعي رحمه الله وان قامت بينة على رجل أنه تلفظ بكلمة الكفر وهو محبوس أو مقيد ولم يقل البينة أنه أكره على التلفظ بذلك لم يحكم بكفره، لان القيد والحبس إكراه في الظاهر.اهـ ( جـ 19 صـ 225 ) .

عند المالكية :
جاء فى المحصول للرازي : في أن المكره على الفعل هل يجوز أن يؤمر به ويتركه المشهور أن الإكراه إما أن ينتهي إلى حد الإلجاء أو لا ينتهي إليه فإن انتهى إلى حد الإلجاء امتنع التكليف لأن المكره عليه يعتبر واجب الوقوع وضده يصير ممتنع الوقوع والتكليف بالواجب والممتنع غير جائز وإن لم ينته إلى حد الإلجاء صح التكليف به [ جـ 2 -  صـ 449 ] .
عند الاحناف:
 جاء فى أصول البزدوي " واما الفصل الآخر فهو فصل الاكراه وهو ثلاثة أنواع نوع يعدم الرضاء ويفسد الاختيار وهو الملجىء ونوع يعدم الرضاء ولا يفسد الاختيار وهو الذي لا يلجئ ونوع آخر لا يعدم الرضاء وهو أن يهتم (بمعنى يلحقه الهم والغم ) بحبس ابيه أو ولده وما يجري مجراه ( جـ 1 -  صـ 357 )
عند الحنابلة :
هو قول الجمهور والراجح ، يقول ابن تيمية : (تأملت المذاهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكرَه عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نص ّ في غير موضع أن الإكراه على الكفر لايكون إلا بالتعذيب من ضرب ٍ وقيد ولايكون الكلام إكراها . اهـ ( انظر : الدفاع عن أهل السنة والأتباع) لحمد بن عتيق ص 32، و (مجموعة التوحيد) ص 419  ضمن الرسالة الثانية عشرة لحمد بن عتيق أيضا ) .
والحجة لقول الجمهور هو سبب النزول، فإن ( عمـار بن ياسـر ) لم يتكلم بالكفر حتى عذّبه المشركون، وعلى المشهور فإن هذا هو سبب نزول قوله تعالى (من كَفَر بالله من بعد إيمانه إلا من أكرِهَ وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل 106
 قال ابن حجر :  (والمشهور أن الآية المذكورة نزلت في عمار بن ياسر، كما جاء من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال «أخذ المشركون عماراً فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال له: كيف تجد قلبك؟  قال: مطمئناً بالإيمان، قال: فإن عادوا فعُد». اهـ ( انظر فتح البارى جـ12 ) .

مماسبق نستنتج أن :
ـ رفع التظلم إلى الطاغوت على سبيل الشكاية أو الاستعانة بنفوذه على تغيير المنكر أمر مباحا شرعا .
ـ أما توكيل محامى برفع هذا التظلم ، فهذا أمرا خارجا عن معنى النظلم ، وداخلا فى دائرة التحاكم المنهى عنه شرعا ..  لأنه يتحول من مجرد رفع المظلمة إلى طلب الحكم فى هذه المظلمة .
ـ أن هذا الفعل إذا صدر ممن هو قابع فى غياهب السجون فى ظلمات الحبس والقيد .. يعد رخصة شرعية فى حقه (( إكراه ملجىء )) ، وفقا لما ذهب إليه فقهاء الشافعية .. رغم كونه مخالف لرأى جمهور أهل السنة والجماعة .. فيصير تركه أحوط للدين وأسلم لمرضاة رب العالمين ، لاسيما والمقام مقام كفر وإيمان . والله أعلم .








الخـــاتـمـــة

أعلم يرحمنى الله وإياك أن الله أرسل رسله مبشرين ومنذرين بلسان قومهم ، وأنزل معهم الكتب ؛ ليحكموا بين الناس بالحق ، وأيدهم بالمعجزات والآيات ، ولم يحل بين الناس وبين الحق بشىء ،،، ثم أنهم أتتهم شياطين الإنس والجن ، فجعلت بينهم وبين الحق حواجب وحواجز .. فتارة يغرقونهم فى الشهوات ؛ ليتكالبوا على الدنيا ولا يفيقوا إلى الدين ـ فمثلا يقولون لهم أن الله أمرنا بالمحافظة على المال والعرض و.... بل هى من الضرورات الخمسة التى يجب حمايتها مهما كانت الوسائل ، ونسى المسكين أو تناسى أن أول وءآكد ضرورة أمرنا الله بالمحافظة عليها وحمايتها هى الدين ـ ، فهل عند المسلم ما هو أعز وأغلى من دينه ؟!!
ومن أبى ذلك أنهالوا عليه بتيارات من الشبهات ، فلا يصل إلى الحق الذى لاحت له بوارقه .. لكن ما هم بضارين بذلك إلا من هو صال الجحيم ، ولا ينجو من ذلك إلا من جاهد فى سبيل الله باحثاً عن الحق مريداً للخير والفلاح فى الدارين .
قال تعالى   : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) .
وقال تعالى : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) .
وقال تعالى : ( ألم  أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون  ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) .
......اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدنى لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقبم . الحمد لله رب العالمين .
     جمعه ورتبه /   طالب رضوان الله .. 


1 comentario: