إذا عرفت ما تقدم معرفة قلب ، فاعلم أننا حين نقرر هذه العقيدة بصفائها ونقائها ، وندعوا إليها ، كما قررها ربُنَا ووضحها نبيُنَا وطبقها سلفنا ، يظهر أمامنا منافقون ومرجفون وماجنون ومرتزقة منتفعون يزعمون .. (( أنه لاحرج على المسلم الموحد فى ديار الكفر فى أن يلجاء لمحاكم الطاغوت ؛ لجلب حق أو لدفع ظلم ، لاسيما وهو مستضعف تحت سلطان الطاغوت والمشركين ، وأنه حينما يضطر إلى هذا الفعل لا يطلب من الطاغوت أو ممن ينوب عنه فى طغيانه إلا تنفيذ وتطبيق حكم الله ليس أكثر .. ولسان حاله ـ أى هذا المتحاكم ـ يارب لو أجد حكومة أو أى جهة إسلامية تجلب لى حقى غير ذلك ما فعلت هذا قط )) .
فيقولون أن الموحد الذى هذا حاله ، لا يكفر بمجرد هذا الفعل ؛ لتضافر عدة أدلة عندنا .. هى كالتالى :
· أن شروط التحاكم المكفر هى : العدول عن شرع الله والتحاكم لشرع الطاغوت والرضا به وأن هذا الشخص الموحد لم يطلب من الطاغوت إلا تطبيق شرع الله .. ألا تقرأون آيات سورة النساء التى نزلت فى المدينة عندما كانت هناك حكومة إسلامية قائمة تنفذ شرع الله وتأطر الناس على الحق أطرا .. أم ما سمعتم عن تفسير ابن كثير وأمثاله من عمالقة التفسير لهذه الآيات ـ يقصدون آيات سورة النساء من الآية 60 إلى الآية 65 ـ الذين قالوا : أن الآيات نزلت فيمن عدل عن شرع الله وتحاكم للطاغوت راضيا بحكمه .
· أن هناك كفر دون كفر فى مسألة التحاكم للطاغوت ، كما أن هناك كفر دون كفر فى مسألة الحكم بغير ما أنزل الله .. ثم ألا ترون أن هذا المسلم فى حالة استضعاف عام فى ديار الكفر ، بل وفى حالة ضرورة .. ألا تقرون معنا أنه متبرىء بالطاغوت بدءاً غير راضٍ بحكمه وأن الإيمان الباطن لا يزول بمجرد مخالفات الظاهر .
· أن الله عز وجل قد كلفنا بالمحافظة على ( أنفسنا ، وأعراضنا ، وأموالنا ، ... ) ، بل وسائلنا عنها .. أم أنكم تجهلون الضرورات الخمسة التى أمرنا الشرع بحفظها .. أما سمعتم أن نبى الله يوسف عليه السلام الكريم بن الكريم بن الكريم عندما أضطر لذلك فعل أمورا ظاهرها عندكم التحاكم لكنها لا تعد تحاكماً فى حقيقتها .. أم أنكم تكفرون يوسف عليه السلام عندما قال " هى راودتنى عن نفسى " وعندما قال " ارجع إلى ربك ... " وإذا خرجتم من ذلك فما تعليقكم على قوله " اذكرنى عند ربك " .. بل يلزم عندكم أيضا أن تكفروا أخوة يوسف الذين طلبوا منه تبديل حكم الله عندما قالوا " خذ أحدنا مكانه " .. بل يلزمكم أن تكفروا خاتم النبيين وإمام الموحدين عندما قال عن حلف من أحلاف الجاهلية " لو دعيت لمثله فى الإسلام لأجبت " .
· أن لدينا أدلة ساطعة من كلام أئمة الإسلام وأهل العلم المشهود لهم بالإجتهاد والتحقيق .. تؤكد أن هذا الفعل إذا صدر عن مسلم فى مثل هذا الحال لا يعد تحاكماً مكفراً ، وإليكم نص كلامهم :
قال الإمام " محمد بن الحسن الشيبانى " ـ صاحب أبا حنيفة ـ فى مصنفه الزاخر ( السير الكبير ) ما نصه : وَلَوْ اسْتَوْدَعَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا شَيْئًا وَأَذِنَ لَهُ إنْ غَابَ أَنْ يُخْرِجَهُ مَعَهُ فَارْتَدَّ الْمُودَعُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَلَحِقَهُ صَاحِبُهُ وَطَلَبَهُ مِنْهُ فَمَنَعَهُ ، وَاخْتَصَمَا فِيهِ إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ ، فَقَصَرَ يَدَ الْمُسْلِمِ عَنْهُ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَالْوَدِيعَةُ لِلْمُودِعِ لَا سَبِيلَ لِصَاحِبِهَا عَلَيْهَا.. ويقول أيضا : وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا ، وَجَحَدَهُ ، فَاخْتَصَمَا إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ ، فَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ ، وَالرَّجُلَانِ مُسْلِمَانِ عَلَى حَالِهِمَا ، فَالْمَغْصُوبُ مَرْدُودٌ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ . لِأَنَّ رَدَّ الْعَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْغَاصِبِ ، بِحُكْمِ اعْتِقَادِهِ ، فَإِسْلَامُ أَهْلِ الدَّارِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً ، وَبِقُوَّةِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُسْلِمُ لَا يَصِيرُ مُحْرِزًا مَالَ الْمُسْلِمِ ، وَلَا مُتَمَلِّكًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَيْفَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ.. ويقول أيضا : وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَغَصَبَهُ حَرْبِيٌّ مَالًا ثُمَّ أَسْلَمُوا ، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً ... فَإِنْ اخْتَصَمَا إلَى مَلِكِهِمْ فَجَحَدَ الْغَاصِبُ وَقَالَ : هَذَا مِلْكِي ، مَا أَخَذْته مِنْهُ ، فَأَقَرَّهُ مَلِكُهُمْ فِي يَدِهِ ، حَتَّى يَأْتِيَ الْمُسْلِمُ بِحُجَّةٍ ، ثُمَّ أَسْلَمُوا ، فَذَلِكَ سَالِمٌ لِلْغَاصِبِ . لِأَنَّ إحْرَازَهُ فِيهِ قَدْ تَمَّ بِتَقْرِيرِ مَلِكِهِمْ لِيَدِهِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ . اهـ
ويقول الإمام العلامة " شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبدالرحمن أبي بكر بن أيوب الزرعي المعروف بابن قيم المدرسة الجوزية بدمشق " فى مصنفه ( مدارج السالكين ) ما نصه : وأما الرضا بنبيه رسولًا فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه؛ فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره ؛ ولا يرضى بحكم غيره ألبته ، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته ، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه ، لا يرضى في ذلك بحكم غيره ، ولا يرضى إلا بحكمه ، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم ، وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور " اهـ .
هذا ما خَلُصنا إليه وتنامى إلى أسماعنا من شبهات مخالفينا وخصومنا ، فى هذه القضية المحسومة البائنة ، فحالهم كما أخبرنا ربنا : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) الأنعام " .
فتأمل أرشدك الله فى هذه الآيات وأَعِد قرائتها ، فتجدها وكأنها نزلت فيهم وفى هذه القضيه بالتحديد .. ثم إذا تأملت فى حال مروجى هذه الشبهات لتتعجب أشد العجب من حالهم ؛ لثلاثة أمور هى كالتالى :
الأمر الأول : تجدهم لايترددون فى إلحاق وصف الكفر بمن يجدوه متلبساً بهذا الفعل من غيرهم ، سواء كان مجهولاً حاله أو معلوماً عندهم .. وكأنهم ممن نزل فيهم قوله تعالى : " وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) المائدة " .. بل أحسن حالهم أن يكونوا كالذين قال الله فيهم : " وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) الأنعام " .
الأمر الثانى : أنهم يُقرون أنه لا عذر لمكلف بالجهل فى الشرك الأكبر ؛ لأنه مرتبط بأصل الدين .. بل تراهم يُشنِّعون بمن يقول بغير ذلك ، بل ويفنِّدون شبهاته ويصفونه بالتنقص بمقام الصحابة والصالحين ، فى الوقت ذاته يقعوا فيما منه فروا وحذروا .. إذ تراهم فى مسألتنا هذه يتنقصون من مقام الصحابة والصالحين كـ ( أسامة بن زيد ـ الأسباط ) ، ولم يقف الأمر عند هذا ، فتراهم يتنقصون من مقام الأنبياء والمرسلين كـ ( يوسف ، محمد ) صلوات الله وتسليماته على أنبياء الله ورسله أجمعين .
الأمر الثالث : أن أكثرهم إما تابع لشيخ من أئمة الضلال يُلبِّس عليه الباطل ويموه عليه الحق ، والمؤسف أنهم يعتبرونه من المجتهدين بل ربما يتمادى الأمر ببعضهم ليجعله من المعصومين ، وغاية الحاذق منهم تراه متشدقا بكلام لأحد السلف يستدل به ولا يستدل له وياليته فهمه ووضعه فى مناطه .. ثم هم فى الوقت ذاته يصولون ويجولون منذرين منددين بعبادة الأحبار والرهبان ، فينتكسوا فيما منه هربوا وفروا .
وما أجمل ما قال ( ابن القيم ) فى نونيته ، عمن هذا حالهم :
جعلو كلام شيوخهم نصاً له الإحكام موزنا به النصان ِ
وكلام رب العالمـين وعبده متشابهـــاً متحملاً لمعانِ
فانظر يا هداك الله .. هذا حال القوم ، وهذه بضاعتهم ، وذاك هذيانهم ، وتلك شبهاتهم التى استلوها من جعبة إبليس وحزبه .. ونحن إن شاء الله داحضوها ، وكاشفون عوارها ومفنِّدُوهَا ، مستلهمين من العزيز الحميد التوفيق والتسديد ؛ للرد على شبهات أهل الشرك والتنديد ، وإبراز صفاء عقيدة أهل الإيمان والتوحيد .
الشبهة الأولى : فى تعريف التحاكم :
أولا : بالنسبة للقول بأن آيات سورة النساء والمائدة مدنية ، وهى :
قوله تعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) النساء " .
وقوله تعالى : " أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) المائدة " .
أنها نزلت فى المدينة عندما كانت هناك حكومة إسلامية ، ومن ثم وُجِدَت صفة العدول عن شرع الله .. فالرد عليه من وجوه :
أن تعلم أن العبرة فى نصوص القرآن والسنة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .. ثم أن آياتى سورة النساء تضمنت كل آية منهما وصفاً وحكماً مستقلاً عن الأخرى ، بيان ذلك :
الآية رقم (60) التى قال الله تعالى فيها : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا " .
.. أقول هذه الآية الكريمة قد حكمت بالضلال البعيد على من أراد ـ مجرد الإرادة ـ التحاكم للطاغوت ، ومعلوم أن الضلال البعيد هو " الشرك " ، قال تعالى : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) النساء " .. كما أن الآية الكريمة حكمت بأن من أراد مجرد إرادة التحاكم للطاغوت ، لم يحقق الكفر بالطاغوت الذى أراده الله عز وجل منه ، ومن ثم فلم يحقق ركن كلمة التوحيد الأول ، وهو " الكفر بالطاغوت " ، قال الله تعالى " فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " (256) البقرة . كما أنَّ هذا المتحاكم للطاغوت قد حقق إرادة الشيطان لا إرادة الرحمان ، قال الله تعالى : " وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا " النساء 60 .
، أما الآية التى بعدها رقم (61) والتى قال الله تعالى فيها : " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا " ، فقد بينت أن من تحاكم للطاغوت فى الظاهر ـ دون إكراه ملجىء _ يلزمه أن يكون منافقاً فى الباطن ؛ فهذه الآية الكريمة حكمت بكفر الباطن أيضا ـ ومعلوم أن النفاق من أنواع الكفر ـ لمن ترك شرع الله ورسوله .
قال ابن تيمية : " فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامداً لها عالماً بأنها كلمة كفر فإنه يكفر بذلك ظاهراً و باطناً و لأنَّا لا نُجَّوِز أن يُقال : إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا و من قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه : { من كفر بالله من بعد إيمانه ـ إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا ـ فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم } [ النحل : 106 ] " اهـ ( الصارم المسلول 3 / 95 ) .
ويقول رحمه الله أيضا : " و ذلك لأن الإيمان و النفاق أصله في القلب و إنما الذي يظهر من القول و الفعل فرعٌ له ودليلٌ عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه " ( الصارم المسلول 1 / 34 ) .
وبالنسبة لآية المائدة " أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " ، فليس لهم حجة فيها ؛ لأنها تتضمن ذم حكم الجاهلية ، فإذا كان حكم الجاهلية مذموم ومستقبح قبل الرسالة وقبل قيام دولة إسلامية تطبق شرع الله ، فهل يكون مستحسناً وخيراً بعد الرسالة !! .
أن تعلم أن من كمال عدل الله سبحانه وتعالى أن جعل حكمه عز وجل قائماً حتى قيام الساعة .. (( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ )) (42) الأنفال ، فالتحاكم لله لا ينحصر فى التحاكم لسلطة مسلمة قائمة تُنفِذ شرع الله ، بقدر ما يتمثل فى التحاكم لميراث السماء الشامل الكامل الخالد ، الذى أنزله الله عز وجل للناس من فوق سبع طباق ؛ ليتعبدوا بما فيه وليحكموا به ويتحاكموا إليه فى كل شىء ، دليل ذلك :
(1) من كلام ربِنا ؛ قوله تعالى : (( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) البقرة )) ، وقال تعالى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) النساء ... ومعلوم أن الرد إلى الله الرد إلى كتابه ، وأن الرد إلى الرسول الرد إليه فى حياته وإلى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم .
كما أن الله عز وجل ذم تحاكُم أهل الجاهلية للطاغوت قبل البعثة وقبل وجود حكومة مُطّبِقة لحكم الله على الأرض ، فهل يجوز لعاقل أن يقول أنه قد أباحه ورخص فيه بعد أن بعث رسوله وأكمل دينه .. تعالى الله عن ذلك الإفتراء .
جاء فى تفسير الطبرى لقوله تعالى: " فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " (256) البقرة ، قال الطبرى رحمه الله : (( حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فمن يكفر بالطاغوت"، قال: كهان تنزل عليها شياطين ، يلقون على ألسنتهم وقلوبهم = أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، أنه سمعه يقول: - وسئل عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال-: كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد، وهي كهان ينزل عليها الشيطان)) أ . هـ
وجاء فى تفسير اللباب لابن عادل فى تفسير آية النساء رقم 60
قال جابر : كَانَتِ الطَّواغِيتُ التي يَتَحَاكَمُون إليها واحدٌ في جُهَيْنَة ، ووَاحِدٌ في أسْلَم ، وفي كُلِّ حَيٍّ واحدٌ ، قال السيوطي : وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس ، قال : كان برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ } الآية .
(2) ومن سنة نبينا ، فيظهر من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن مالكاً للسلطة التنفيذية المُلزِمة لما يحكم به فى مكة وفى فترة طويلة فى المدينة . بدليل أنه لما تحاكم إليه اليهودى والمنافق لم يأخذ حق اليهودى من المنافق ، مما دفعهما إلى الذهاب إلى أبى بكر ثم إلى عمر رضى الله عنهما.
جاء فى تفسير ابن كثير لقول الله تعالى : " فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ .. " ما نصه : قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دُحَيْم في تفسيره: حدثنا شُعَيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عتبة بن ضَمْرَة، حدثني أبي: أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضيّ عليه: لا أرضى. فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قُضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي فقال أبو بكر: فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى، قال: نأتي عمر بن الخطاب، فأتياه، فقال المقضى له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لي عليه، فأبى أن يرضى، ثم أتينا أبا بكر، فقال: أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرضى . فسأله عمر، فقال: كذلك، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قدْ سَلَّه، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى، فقتله، فأنزل الله: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... إلى آخر الآية } .
أن العدول والحياد عن حكم الله يكون بـــ ( إرادة التحاكم أو بالتحاكم لغيره ) مع العلم بوجود حكم الله ورسوله فى المسألة المتنازع فيها ـ وهذا يلزم كل مسلم يؤمن بقول الله "وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله" ، وقوله تعالى "ما فرطنا فى الكتاب من شىء" ـ وبغض النظر عما إذا كان لهذا الحكم قوة إلزامية تنفذه من قبل المسلمين أم لا ؛ لأن هذا يعود إلى تفريط المسلمين ، لا إلى تفريط رب العالمين ـ سبحانه وجل شأنه ـ .. فمن علم بوجود حكم الله فى مسألة ما وذهب ليأخذ حكم غير الله فيها ، فيقال أنه ترك حكم الله ورسوله وعدل وحاد عنه واختار حكم غيره .
ثانيا: بالنسبة للإستدلال بكلام ابن كثير فى تفسير هذه الآيات :
عندما قال : " ... والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة ، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت هاهنا ". ( انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، سورة النساء الآيات 60، 61 ) ، وعندما قال : " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله " ( انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، سورة المائدة الآية 50 ) .
لا نقول كلام ابن كثير المتقدم لا تقوم به حجه فى ذاته ـ وإن كان هذا أمر وارد ـ لكنه استدلال فى غير محله لوجوه منها :-
(1) أن ابن كثير رحمه الله كما يقول (أحمد شاكر) فى عمدة التفاسير : يصف لنا حالة الدولة الإسلامية التى كانت آنذاك بريئة من هذا العار وهو تنحية شريعة الله عن الحكم بين عباد الله .
(2) أن ابن كثير رحمه الله لم يقل بجواز التحاكم للطاغوت فى حالة عدم وجود حكومة إسلامية تطبق شرع الله .. فهل نفترى عليه الكذب ونُقَّوْلَه ما لم يقُل ؟! .
(3) أن ما ذكره ابن كثير رحمه الله من وجود سلطة إسلامية تحكم بين العباد بشرع الله فى تلك الحقبة الزمنية التى يتحدث عنها ، هو ما يسميه الأصوليون بالقيد الأغلبى وهو مايغلب وجوده وليس له مفهوم ، بدليل ؛
ـ أن قول الله تعالى : وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) المؤمنون .
لا نفهم منه أن هناك إله باطل له برهان .
ـ وأن قول الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) آل عمران .
لا نفهم منه أنه يجوز أكل الربا القليل دون الأضعاف المضاعفة .
ـ وأن قول الله تعالى : وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) النور .
لا نفهم منه أنه يجوز إكراه الفتيات على الزنا إن لم يردن الزواج .
(4) أن هناك فرق بين القيام بالفعل وترك القيام به وكلاهما عمل ؛ لأن ترك العمل عمل ، فالتحاكم للطاغوت عمل ، و ترك التحاكم لله عمل ، وكل واحدة منهما كفر مستقل بذاته ، من أتى بواحدة منهما خرج من دائرة الإسلام .
مع ملاحظة أنه ليس بالضرورة أن يكون كل ترك للتحاكم لشرع الله كفر .
(5) أن من يقول بذلك يفترى على أئمة العلم الكذب فيأخذ ما يشتهيه ويترك ما لا يشتهيه ، فمن يُروِّج لهذه الشبهة يترك كلام ابن كثير فى نفس الموضع عند تفسيره لآيات سورة النساء المتقدمة عندما قال : " هذا إنكار من الله، عز وجل، على من يدّ عي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله .. " ، وعند تفسير الآية التى قبلها قال : " وقوله: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وهذا أمر من الله، عز وجل، بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة ،كما قال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى:10] فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، ولهذا قال تعالى: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك ، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر ، وقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ } أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله . والرجوع في فصل النزاع إليهما خير { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } أي : وأحسن عاقبة ومآلاً كما قاله السدي وغير واحد . وقال مجاهد : وأحسن جزاء . وهو قريب " اهـ .
ثالثا : بالنسبة للقول بأن المسلم الموحد فى هذه الأيام لا يطلب من الطاغوت إلا تطبيق شرع الله .. فباطل من وجوه :
قوله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ – مقام إسلام- ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ - مقام إيمان - وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا - مقام إحسان - (65) سورة النساء . فهذه الآية الكريمة اشتملت على مراتب الدين الثلاثة (الإسلام – الإيمان – الإحسان ) ... انظر شرح رسالة تحكيم القوانين نقلاً عن ابن القيم ..
لذا فتحكيم أى جهة يدل على اختيار هذه الجهة للتحاكم وهذا مقام الإسلام أو الكفر . أما رضا النفس وقبولها لهذا الحكم بعد القضاء فهذا مقام الإيمان أو النفاق . وأما الإذعان والتسليم المطلق لهذا الحكم عند التنفيذ فهذا مقام الإحسان أو القنوط من رحمة الرحمن ، ومن هنا كان مجرد الذهاب للطاغوت طلباً للتحاكم كفراً بالله وإيماناً بالطاغوت ، وذلك كُله قبل أن يَشْرع الطاغوت فى الحكم ، بدليل قول الله تعالى :
فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (42) المائدة . يقول ابن كثير فى تفسير هذه الآية (فإن جآءوك أى يتحاكمون إليك) فجعلهم متحاكمين قبل أن يفصل بينهم فى الحكم .
أن المتحاكم للطاغوت لا يدرى أيصيب الطاغوت حكم الله أم يخطئه ، وعادة ما يخطئه ؛ لأن العدل عند الطاغوت ما تقرره قوانينه لا قوانين السماء . وإن وافق حكم الطاغوت حكم الله فى المسألة لا يجوز أن نسمى ما حكم به الطاغوت بأنه حكم الله ، ولكن يمكن أن نسميه موافقاً لحكم الله ؛ لأن ما كان موافقاً لحكم الله لا يسمى حكم الله ، مثلما نقول هذا كلام زيد وهذا ما يوافق كلام زيد ، فمعلوم أن هناك فرق بين كلام زيد نفسه وما يوافق كلام زيد . مثال آخر : كان فى الجاهلية حرام على الإبن أن ينكح أمه أو أخته أو عمته أو خالته ، ثم أقر الإسلام ذلك فقال تعالى: " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ ... الآية .
فإن جاء من يحكم بحرمة نكاح هؤلاء ؛ إستناداً لعادات الجاهلية وأحكامها ، فهو بذلك طاغوت والتحاكم إليه تحاكم للطاغوت وإن جاء حكمه هذا موافقا لحكم الله .
قال ابن كثير رحمه الله : (( قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي ، حدثنا قُرَاد ، حدثنا ابن عيينة عن عمر، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يُحَرِّمون ما حرم الله ، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فأنزل الله: " وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ".. ، " وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ " وهكذا قال عطاء وقتادة )) اهـ { انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، سورة النساء ، الآية 22 }.
لا يستطيع أحد أن يجبر الطاغوت – إلا أن يشاء الله – على أن يحكم له بشرع الله ، لاسيما المسلم المستضعف فى دار الكفر ، كما أن الخصم الكافر الذى تُحَاكمهُ إلى الطاغوت ، له محاموه الحاذقين فى قلب الحقائق والتعامل مع قوانين الطاغوت والتحايل عليها ، وما أسهل التحايل على قوانين البشر !!
أن المتحاكم للطاغوت هذا قد أقر بشرعية وجوده وتحكُّمه فى رقاب الناس ودمائهم وأموالهم كيف شاء وأنى شاء ، بل وخلع عليه صفة الإلوهية ، ووضع مقاليد أمره فى يده وتحت تصرفه وحكمه ، بل لا يخلو الأمر من أنه قد تولاه ورضى به وأذعن لسلطانه ورفض سلطان رب الأرض و السماوات ، سواء حدث ذلك بقصد منه أو بدون قصد .
فأى عبودية شر من خضوع الإنسان لما يُشَرِّعه له إنسان مثله ؟! ... وأى عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان مثله ؟! ... وأى عبودية شر من تعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ؟! ... وأى عبودية شر من أن توضع رقاب و أرواح وأموال إنسان تحت هوى وشهوات إنسان مثله ؟! .
رابعا : إن الذين يزعمون أنه يجوز للمرء أن يتحاكم إلى الطاغوت ، فى حالة عدم وجود حكومة مطبقة لشرع الله ، يلزمهم أن يقولوا :
لدينا نص من قرآن أو سنة أو إجماع يجيز ذلك ، أو أنه ليس هناك نص فيكون من باب المباح المسكوت عنه .. ونجيب عليهم بقولنا : أنه لا يوجد نص من كتاب أو سنة أو إجماع يجيز ذلك ، حتى إن أوَّلتُم بعض النصوص ـ كعادتكم ـ على إحدى الإحتمالات التى تخدم شهواتِكم وشبهاتِكم .. فنقول ما تطرق إليه الإحتمال بطل به الإستدلال ، خاصة والمقام مقام كفر وإيمان .. ثم إن ما سقناه لكم من أدلة وآيات فقطعى الدلالة قطعى الثبوت على كفر المتحاكم للطاغوت ، وإن انعدم وجود حكومة إسلامية تناسب سبب نزول النص ؛ لأن العبرة عند المسلمين سلفهم وخلفهم بدعيهم وسنيهم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ـ فلا يبقى لكم إلا أن تقولوا : أنه من باب المسكوت عنه ، فنقول لكم : فما جوابكم عن قوله تعالى : " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) النساء " ، وكلمة شىء هنا ـ كما يقول أهل اللغة ـ جاءت نكرة فى سياق الشرط فتكون أعم كلمة فى اللغة ، فتشمل كل ما تنازع فيه جنسا وقدرا وكما وكيفا ، فإن أقررتم بهذا إقرار قلب ، فيلزمكم القول بأن ما أمرنا الله به من الإحتكام إلي كتابه وسنة رسوله فى كل شىء وأن نرد ما تنازعنا فيه من شىء إليهما يكون كله لغو (( تعالى الله عن ذلك )) ، بل سبحانه الذى نزل الكتاب تبيانا وتفصيلا لكل شىء .
ـ فإن أبيتم بعد كل هذا إلا الإستمرار على ضلالكم ، فما جوابكم عن دعوة يوسف عليه السلام لمن معه فى السجن إلى عدم التحاكم للطاغوت ، وكيف بَيَّن لهم يوسف الصديق عليه السلام أن التحاكم عبادة لا يجوز صرفها لغير الله ، قال تعالى : " إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يوسف " .. فهل كانت هناك حكومة إسلامية آنذاك فى مصر الفرعونية تطبق شرع الله !! ، أم أنه كانت هناك حكومة إسلامية تطبق شرع الله فى جزيرة العرب قبل الهجرة عندما نزل قول الله تعالى : " أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) الأنعام " يقول البغوى فى تفسيره لهذه الآية ما نصه : " قل لهم يا محمد أفغير الله، { أَبْتَغِي } أطلب { حَكَمًا } قاضيا بيني وبينكم " اهـ ، ومعلوم أن الآية مكية بل والسورة بكاملها مكية !! .
الشبهة الثانية : كفر دون كفر :
فقولكم : أن هناك كفراً دون كفر فى مسألة التحاكم للطاغوت ، كما أن هناك كفراً دون كفر فى مسألة الحكم بغير ما أنزل الله .. فسيتم الرد عليه من وجوه :
أولا : دلالة هذا المصطلح ، ومدى دقته ، ومناط تطبيقه : ـ
هذا الأثر يُروى من طريق سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس أنه قال: " إنه ليس الكفر الذي تذهبون إليه، إنه كفر دون كفر" - رواه الحاكم وغيره من طريق هشام بن حجير المكي .
وهشام بن حجير ضعفه الأئمة الثقاة ولم يتابعه على هذه الرواية أحد ، قال أحمد بن حنبل في (هشام): "ليس بالقوي"، وقال: "مكي ضعيف الحديث" وهذا طعن من جهة الرواية ، وضعفه يحيى بن سعيد القطان وضرب على حديثه، وضعفه علي بن المديني وذكره العقيلي في الضعفاء، وكذا ابن عدي.
ولذلك لم يرو له البخاري ومسلم إلا متابعة أو مقروناً مع غيره وكانت أحاديثه من الأحاديث المنتقدة على الصحيحين.
أما البخاري فلم يرو له إلا حديثاً واحداً هو حديث (سليمان بن داود عليهما السلام): "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة... الحديث". أورده في كفارة الأيمان من طريق هشام وتابعه في كتاب النكاح برواية عبد الله بن طاووس. ومن المعلوم أن الحافظ ابن حجر من عادته في مقدمة فتح الباري أن يذب عمن تكلم فيهم بغير حق ويدافع بكل ما أوتي من علم، أما من ظهر له ضعفهم وأن البخاري لم يعتمد عليهم وحدهم وإنما أوردهم في المتابعات أو مقرونين ، راجع في هذا ما قاله الشيخ الهروي في كتابه: "خلاصة القول المفهم على تراجم رجال الإمام مسلم".
والخلاصة أنه عرف مما سبق أنه لا حجة لمن حاول تقوية هشام بالاحتجاج برواية البخاري ومسلم له.. لأنهما لم يرويا له استقلالاً ولكن متابعة.. وهذا من الأدلة على تضعيفه إذا انفرد.
ومن أجل هذا كله لم يوثق هشام بن حجير إلا المتساهلون كابن حبان فإنه مشهور بالتساهل في التوثيق. ومثله العجلي، قال المعلم اليماني: "توثيق العجلي وجدته بالاستقراء كتوثيق ابن حبان تماماً أو أوسع". الأنوار الكاشفة ص: (68).
وكذا توثيق ابن سعد فإن أغلب مادته من الواقدي المتروك كما ذكر ابن حجر في مقدمة الفتح عند ترجمة عبد الرحمن بن شريح.
فإذا كان هذا حال من وثقوه فإن رواياته لا تقوم بها حجة بتوثيقهم هذا.
فكيف وقد عارضهم وقال بتضعيفه الأئمة الجبال الرواسي كأحمد وابن معين ويحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني وغيرهم.
فخلاصة القول: أن هشام بن حجير ضعيف لا تقوم به حجة استقلالاً وحده. نعم هو يصلح في المتابعات كما عرفت، والمحتجون به لم يوردوا له على رواية ابن عباس هذه متابع ، فيترجح ضعفها وعدم صحّة الجزم بنسبتها إلى ابن عباس.
بل قد روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس بإسناد صحيح في تفسير هذه الآية غير ذلك فقال: ثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن قوله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44) سورة المائدة " قال: هي به كفر. قال ابن طاووس: "وليس كمن كفر بالله وملائكته ورسله " .
هذا من جهة الرواية والإسناد ، أما من جهة المناط والتحقيق ، فنقول: أن قول ابن عباس هذا إن صح - إذ قد صح قريب من معناه عن غيره - فهو رد على الخوارج الذين أرادوا تكفير الحكمين ، علي ومعاوية ومن معهما من المسلمين لأجل الخصومة والحكومة التي جرت بينهم في شأن الخلافة والصلح وما جرى بين الحكمين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري .. إذ تلك الحادثة كانت أول مخرجهم - كما هو معلوم - فقالوا: "حكّمتم الرجال": ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة: 44] ولا شك أنهم مخطئون في ذلك ضالون .. إذ ذلك الذي وقع بين الصحابة ولو جار بعضهم فيه على بعض ليس بالكفر الذي ينقل عن الملة بحال ، وقد بعث علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس إلى الخوارج يناظرهم في ذلك ، فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه ، فقال : نقمتم من الحكمين وقد قال الله عز وجل : فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها .. سورة النساء: 35 فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
قالوا له : ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم وما حكم فأمضى فليس للعباد أن ينظروا في هذا .
فقال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول : " يحكم به ذوا عدل منكم [المائدة: 95] " .
قالوا: تجعل الحكم في الصيد والحرث ، وبين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له : أعدلٌ عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يقاتلنا ؟ فإن كان عدلاً، فلسنا بعدول، وقد حكّمتم في أمر الله الرجال".
والشاهد.. أنه بعد هذه المناظرة رجع منهم إلى الحق خلقٌ.. وأصر آخرون على ضلالهم وانشقوا عن جيش " علي " بعد حادثة الحكمين هذه، وهم أصل الخوارج .
فعمد مشركى العصر إلى تلك المقولة المنسوبة لابن عباس وما شابهها من أقوال أخرى لبعض التابعين .. كطاووس وابنه وأبي مجلز والتي كانت كلها في شأن الخوارج.. وطاروا بها كل مطير ، لينزلوها زوراً وبهتاناً في محل غير محلها وواقع غير واقعها ومقام غير مقامها . بدليل أن هذه اللفظة التي يحتج بها هؤلاء، فيها قول ابن عباس مخاطباً أناساً بعينهم، عن واقعة بعينها: " إنه ليس الكفر الذي تذهبون إليه"، فلفظة "الذي تذهبون" خطاب للخوارج ومن تبعهم في زمانه، في واقعة معلومة معروفة.. فقوله إذاً ليس في تفسير الآية، وإنما في المناط الخطأ الذي علّقها الخوارج خطأ فيه، بدليل أن الآية أصلاً تتكلم عن الكفار المبدّلين لشرع الله يهوداً كانوا أو غيرهم وسيأتي تفصيل هذا.. فهل يُعقل أن يقول ابن عباس أو غيره من أهل الإسلام في تبديل اليهود أو غيرهم لحكم أو حد من حدود الله - كالدية أو حد الزنا - انه كفر دون كفر؟؟ فمقولته هذه إذن - على تقدير صحتها - هي في المناط الباطل الذي أراد الخوارج إنزالها فيه وليست في بيان الآية وتفسيرها نفسها.. فتنبه، ولا تنخدع بتلبيسات الضالين..
يقول أحمد محمد شاكر في تعليقاته على (عمدة التفسير) عن هذه الآثار : " وهذه الآثار - عن ابن عباس وغيره - مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا ، من المنتسبين للعلم، ومن غيرهم من الجرءاء على الدين: يجعلونها عذراً أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة ، التي ضربت على بلاد الإسلام" اهـ (4/156).
وينقل رحمه الله تعالى في الموضع نفسه تعليق أخيه محمود شاكر على آثار مشابهة، يناقش فيها أبو مجلز وهو أحد التابعين بعض الخوارج في زمانه، أوردها الطبري في تفسيره (10/348) ، قال : " اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة، وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمّس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام. فلما وقف على هذين الخبرين، اتخذهما رأياً يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها، والعامل عليها.. ".
وساق مناسبة تلك الآثار وأنها كانت مناظرة مع الخوارج الذين أرادوا تكفير ولاة زمانهم بالمعاصي التي لا تصل إلى الكفر.. ثم قال: "وإذن فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ، ورغبة عن دينه ، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى ، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه . اهـ .
فإذا عرف المنصف الذي وُفق لطلب الحق ، هذا كله ، وفهم مناط تلك الأقوال المنسوبة لابن عباس وغيره من السلف . والواقع الذي قيلت فيه وصفة القوم الذين قيلت لهم وصفة مقالاتهم .
ثم نظر بعين البصيرة فيما نحن فيه اليوم من تشريع مع الله ما لم يأذن به الله، واستبدال الذي هو أدنى من زبالات القوانين الوضعية وأهواء البشر، بأحكام الله وتشريعاته وحدوده المطهرة.
عرف فداحة ذلك التلبيس العظيم والتضليل المبين الذي يقوم به مشركى العصر بإنزال تلك النصوص على واقع مغاير كل المغايرة لواقعها الذي قيلت فيه، ترقيعاً لجريمة العصر هذه ومجرميها..
فهل كان علي ومعاوية ومن معهم من الصحابة يوم أن واجههم الخوارج بحججهم تلك، يدّعون لأنفسهم حق التشريع مع الله؟ أو اخترعوا قوانين ودساتير كفرية تنص على أن [السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقاً للدستور] - كما هو الحال في الدول التي تسمى إسلامية اليوم !!؟؟
حاشاهم ، وألف حاشاهم ، بل وحاشى مرجئة زمانهم من هذا الكفر البواح.
وبالتالي هل شرّع الصحابة قوانين وضعية وفقاً لحكم الشعب ورغبته أو تبعاً لهوى الأغلبية واستبدلوها بحدود الله تعالى المرفوعة المطهرة..؟؟ حاشا الصحابة.. بل وحاشى السفهاء والمجانين والرعاع والعوام في ذلك الزمان عن مثل هذا الكفر البواح .. أنّى يتصور فيهم مثل هذا، وهم الذين خضّبوا الغبراء بدمائهم الزكية من أجل رفعة شريعة دين الله وعزتها .
ثم هب أن ابن عباس ، وهو بشر غير معصوم يصيب ويخطئ ، أراد بذلك القول المنسوب إليه واقعتنا هذه - وهو محال كما عرفت إذ لم يكن لها مثيلٌ ساعتئذ - فهل نصادم بقول ابن عباس قول الله وقول الرسول وفي مسألة من مسائل التوحيد الذي بعثت بها الرسل كافة وهي الكفر بالطاغوت، شطر كلمة التوحيد ؟؟ !! )) انتهـــــــــــــى كلام الباحث بتمامه .
ثانياً : أن الذى يقول بهذه الشبهة يخلط بين معانى ( التحاكم والحكم والقضاء ) : ـ
بل ولا يرى فرقا بين ( التحاكم والتصالح والاستعانة ) ولا يستطيع أن يوضح حد كل أمر من هذه الأمور ، وهو ما وضحناه فى صدر هذا البحث ولا نعيده منعا للتكرار .. ثم نلزم من يقول بهذه الشبهة بقوله ونقلب الدائرة عليه ، بأن نقول له : إذا كان من معتقدك إجازة التحاكم للطاغوت فى بعض المرات لجلب الحقوق أو لدفع المظالم كما تزعم ، فيلزمك أن تقول : أنه يجوز للطاغوت أن يحكم بشرع غير شرع الله ؛ ليجلب حقوق الناس إليهم ، ويُنظِّم ملكه وسلطانه الطاغوتى ، لاسيما وأن هذا الطاغوت لايجد نموذج قائم اليوم على أرض الله يطبق شرع الله ، فيكون هذا الطاغوت هو الآخر ـ على فهمك ـ مضطر إلى عدم تطبيق شرع الله ، خاصة وأنه عندما جلس على سدة السلطة وجد هذا النظام الطاغوتى قائما ، بل وإن حاول تغييره إلى ما يوافق شرع الله فسيلقى معارضة شعواء من معظم الجماهير التى لاتناسب شريعة الإسلام شهواتهم ومصالحهم ، ولربما إن فعل ذلك أزاحوه من على سدة الحكم أو قتلوه !! .
ثالثا : وخلاصة الرد على هذه الشبهة : ـ
أن يعلم المجادل بهذه الشبهة أن ( كل حاكم متحاكم ، وليس كل متحاكم حاكم ) ،
بيان ذلك : أن كل حاكم فى واقعنا هذا يحكم بين عباد الله بغير ما أنزل الله ويلزمهم بحكمه ، فوصفه عند الله أنه ليس كافر فحسب ، بل طاغوت أتى كفريات مركبه وظلمات بعضها فوق بعض ، غير أن أول كفرياته فى هذا المجال هو تحاكمه نفسه لغير شريعة الله عز وجل ، هذا قبل أن يحكم بها بين عباد الله .. فنفهم من ذلك أن هناك فرق بين كفر الحاكم وكفر المتحاكم ، وأن كفر الحاكم يأتى من تحاكمه بدءاً إلى غير شرع الله .
الشبهة الثالثة : أن الإستضعاف العام فى ديار الكفر ينزل منزلة الضرورة المبيحة للكفر :
وأكبر أدلتهم على ذلك : ما ذكره سلطان العلماء ( العز بن عبد السلام ) عندما قال : " الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : لَوْ عَمَّ الْحَرَامُ الْأَرْضَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهَا حَلَالٌ جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، وَلَا يَقِفُ تَحْلِيلُ ذَلِكَ عَلَى الضَّرُورَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَيْهَا لَأَدَّى إلَى ضَعْفِ الْعِبَادِ وَاسْتِيلَاءِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ .. إلى أن قال .. لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ كَالضَّرُورَةِ الْخَاصَّةِ " اهـ ( انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ، قَاعِدَةٌ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ ، جـ 2 ، صـ 282 ) .
فنقول الله المستعان على ما تصفون ، والرد على شبهتكم هذه من وجوه :
أنكم خلطتم بين الضرورة والإكراه ، فالضرورات تبيح المحظورات ، أما الشرك فلا يباح إلا فى حالة واحدة فقط ألا وهى الإكراه ، أدلـة ذلك :
قوله تعالى : " وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) الأنعام "
وقوله تعالى : " إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) البقرة " .. هذا فى حالة الضرورة المبيحة لتناول المحرم المحظور تناوله فى غير الضرورة .
وصح عن النبى صلي الله عليه وسلم أنه قال :" إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه "... أخرجه أحمد، وابن ماجة، والطبراني .
وقال ابن القيم رحمه الله : ( ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الإغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان ). اهـ (انظر : أعلام الموقعين ، باب الذين يذكرون فى الحيل ، جـ 3 ، صـ 178 ) .
أنكم ما فهمتم كلام ( العز بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ ) ، ولا تأخذوا من كلام العلماء إلا ما يوافق أهوائكم ويخدم شهواتكم ، أدلـة ذلك :
ـ أن ( العز بن عبد السلام ) يتحدث عن الضرورة التى تبيح تناول المُحرَّم من الغذاء والكِساء الذى يحفظ حياة الإنسان ـ لا يتحدث عن اقتراف الشرك والكفران فى مثل هذا الحال ـ خشية تلف النفس وهلاكها .
وهذا كلام العز بن عبد السلام رحمه الله ، بتمامه : " الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : لَوْ عَمَّ الْحَرَامُ الْأَرْضَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهَا حَلَالٌ جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، وَلَا يَقِفُ تَحْلِيلُ ذَلِكَ عَلَى الضَّرُورَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَيْهَا لَأَدَّى إلَى ضَعْفِ الْعِبَادِ وَاسْتِيلَاءِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَقْطَعُ النَّاسُ عَنْ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي تَقُومُ بِمَصَالِحِ الْأَنَامِ ، قَالَ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا يُتَبَسَّطُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ كَمَا يُتَبَسَّطُ فِي الْمَالِ الْحَلَالِ بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى مَا تَمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ دُونَ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَشُرْبِ الْمُسْتَلَذَّاتِ وَلُبْسِ النَّاعِمَاتِ الَّتِي هِيَ بِمَنَازِلِ التَّتِمَّاتِ ، وَصُوَرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَجْهَلَ الْمُسْتَحِقِّينَ بِحَيْثُ يَتَوَقَّعُ أَنْ يَعْرِفَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَلَوْ يَئِسْنَا مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ لَمَا تَصَوَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، وَإِنَّمَا جَازَ تَنَاوُلُ ذَلِكَ قَبْلَ الْيَأْسِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ كَالضَّرُورَةِ الْخَاصَّةِ ، وَلَوْ دَعَتْ ضَرُورَةُ وَاحِدٍ إلَى غَصْبِ أَمْوَالِ النَّاسِ لَجَازَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا خَافَ الْهَلَاكَ لِجُوعٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ ، وَإِذَا وَجَبَ هَذَا لِإِحْيَاءِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، فَمَا الظَّنُّ بِإِحْيَاءِ نُفُوسٍ ، مَعَ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ قَدْ لَا يَكُونُ لَهَا قَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَلَا يَخْلُو الْعَالَمُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالصَّالِحِينَ ، بَلْ إقَامَةُ هَؤُلَاءِ أَرْجَحُ مِنْ دَفْعِ الضَّرُورَةِ عَنْ وَاحِدٍ قَدْ يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ. اهـ ( انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ، قَاعِدَةٌ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ ، جـ 2 ، صـ 282 ) .
ـ ثم إن ( العز بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ ) يقرر فى نفس الكتاب ؛ أن مجرد تلفظ الكفر لا يُباح إلا عند الإكراه أو الحكاية ( كأن تُنبه من معتقد كفرى لشخص ما أو طائفة معينة فتذكره وترويه على سبيل الحكاية ) ، فيقول رحمه الله : (( الْمِثَالُ الْأَوَّلُ : التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ لَكِنَّهُ جَائِزٌ بِالْحِكَايَةِ وَالْإِكْرَاهِ ، إذَا كَانَ قَلْبُ الْمُكْرَهِ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ )) اهـ (انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ، فصل فى اجتماع المصالح مع المفاسد ، جـ1 ، صـ 156 ) .
أن ننصحكم بأن تتفقهوا فى دين الله ، وألاَّ تقولوا على الله بغير علم ، وتعرفوا أن أهل العلم يفرِّقون بين الضرورات التى تبيح المعاصى وبشروط ، وبين الشرك بالله ،
ـ يقول ابن تيمية : " وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي فِعْلِ الْفَاحِشَةِ فَغَيْرُهَا مِنْ الذُّنُوبِ أَعْظَمُ مِثْلَ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ لِلْخَلْقِ كَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَمِثْلَ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَمِثْلَ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَهَذِهِ أَجْنَاسُ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالِ وَلَا فِي شَرِيعَةٍ وَمَا سِوَاهَا - وَإِنْ حَرُمَ فِي حَالٍ - فَقَدْ يُبَاحُ فِي حَالٍ . فَصْلٌ وَاخْتِيَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَلِأَهْلِهِ الِاحْتِبَاسَ فِي شِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ بِضْعَ سِنِينَ لَا يُبَايِعُونَ وَلَا يُشَارُونَ ؛ وَصِبْيَانُهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ قَدْ هَجَرَهُمْ وَقَلَاهُمْ قَوْمُهُمْ وَغَيْرُ قَوْمِهِمْ . هَذَا أَكْمَلُ مِنْ حَالِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَدْعُونَ الرَّسُولَ إلَى الشِّرْكِ وَأَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ . يَقُولُ : مَا أَرْسَلَنِي وَلَا نَهَى عَنْ الشِّرْكِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا } { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } { إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إلَّا قَلِيلًا } { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا } . " اهـ ( انظر : مجموع الفتاوى ، كتاب التفسير ، فصل تفسير قوله تعالى " قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ " ، جـ 3 ، صـ339 ) .
ـ ويقول أيضا رحمه الله : " وَالشَّرِيعَةُ تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ وَالْجِهَادُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَتْلُ النُّفُوسِ فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَفِتْنَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الْقَتْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } وَنَهَى عَنْ الْمَفَاسِدِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَمَا نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَعَنْ : " الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُبِيحُهَا قَطُّ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَلَا فِي شِرْعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ . وَتَحْرِيمُ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَهَذَا الضَّرْبُ تُبِيحُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ فَوَاتِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ بِهِ " اهـ ( انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية ، فصل الزيارة وشد الرحال ، جـ 6، صـ 240 ) .
الشبهة الرابعة : أن الإيمان الباطن لا يزول بمجرد مخالفات الظاهر :
فتقولون أن الموحد المعلوم حاله لدينا لا يجوز تكفيره بمجرد هذا العمل الظاهرى ، والرد على هذه الشبهة من وجوه :
فكما يحكم المسلم بالإسلام على من نطق بالشهاده محققا لشروطها ، كذا يحكم بالكفر على من ارتكب ناقضا من نواقضها بقصد أو بدون قصد ، يقول ابن تيمية ( الصارم المسلول 1 / 184 ) ما نصه : " و بالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك و إن لم يقصد أن يكون كافرا إذ لا يقصد الكفر أحدٌ إلا ما شاء الله " اهـ .
ثم تجهلون أو تتجاهلون أن إجماع أهل القبلة على أن " الأحكام يُعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر " ( صحيح مسلم للنووى 3 / 107 ) .. أدلة ذلك :
ـ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (( إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ .. )) حديث متفق عليه .
أخرجه البخاري في: كتاب المغازي ، باب بعث علي ابن أبي طالب عليه السلام وخالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمن قبل حجة الوداع
وأخرجه مسلم فى : كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم .
ـ قول النبى صلى الله عليه وسلم لأسامة : (( أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ )) .. صحيح مسلم .
ـ ما رواه البخارى عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : (( إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ )) ... صحيح البخارى .
وادعائه الإيمان بالله ورسله أو أنه كافر بالطاغوت فدعاوى باطلة يكذبها ظاهر فعله ويكذبها صريح الآيات المنزلة من عند رب الأرض والسماوات.
قال تعالي :أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء.
وأهل العلم متفقون على أنه إذا تعارض ظاهر إيمان مع ظاهر شرك أكبر يُحكم بالشرك إذ لايجتمع شرك مع إيمان فى قلب عبد أصلا . ومتفقون كذلك على أننا أمُرنا بالحكم بالظاهر ونهينا عن الظن واتباع ماليس لنا به علم .
ـ قال ابن تيمية : (( فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامداً لها عالماً بأنها كلمة كفر فإنه يكفر بذلك ظاهراً وباطناً ولأنا لا نُجوِّز أن يقال : إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمناً و من قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم } [ النحل : 106 ] )) اهـ ( الصارم المسلول 3 / 95 ) .
ـ ويقول أيضا : " و ذلك لأن الإيمان و النفاق أصله في القلب و إنما الذي يظهر من القول و الفعل فرع له دليل عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه " ( الصارم المسلول 1 / 34 )
ـ يقول ابن أبى العز الحنفى : " لأنا قد أُمرنا بالحكم بالظاهر ، ونُهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم " اهـ ( شرح العقيدة الطحاوية 1 / 363 ) .
ولا غضاضة فى أن نعيد ما ذكرناه فى المبحث الأول حول هذا الشأن ، عند ذكر كلام العراقى والتعليق عليه فقلنا :
جاء فى تَقْرِيبَ الْأَسَانِيدِ وَتَرْتِيبَ الْمَسَانِيدِ : " قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيُّ جَاءُوا مُحَكِّمِينَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَمُخْتَبِرِينَ فِي الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ نَبِيُّ حَقٍّ أَوْ مُسَامِحٌ فِي الْحَقِّ فَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إفْتَاءَهُمْ وَتَأَمَّلَ سُؤَالَهُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْكِيمَ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ انْتَهَى " ( تَقْرِيبَ الْأَسَانِيدِ وَتَرْتِيبَ الْمَسَانِيدِ ، زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، جـ 8 ، صـ152 )
فتأمل عقيدة أهل العلم والتحقيق ، رزقك الله الفهم والتوفيق ، فهذا الإمام العَلم أبو بكر بن العربى القرطبى الأندلسى ، قاضى قضاة الأندلس فى زمانه ، المتوفى فى القرن السادس الهجرى ، يبرهن بجلاء على فساد معتقد أهل الكفر والإرجاء ، فيقول رحمة الله عليه ، مُفسِّراً لحال اليهود الذين نزل فيهم قول الله تبارك وتعالى : " وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) سورة المائدة " .. أقول تأمل أرشدك الله ، كيف قال عنهم ابن العربى رحمه الله : جَاءُوا مُحَكِّمِينَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَمُخْتَبِرِينَ فِي الْبَاطِنِ .. أى أن حقيقة أمرهم التى أضمروها فى مكنون نفوسهم اختبار هذا النبى لا التحاكم إليه إذ أن حكم المسألة ثابت عندهم فى التوراة ، ورغم ذلك وصفهم الله سبحانه وتعالى بظاهر فعلهم وهو أنهم متحاكمين ومحكمين .
الشبهة الخامسة : أن الله أمرنا بالمحافظة على الضرورات الخمس ، ومنها المال والعرض و..
وهذه الشبهة ءآكد دليل على فساد معتقد هؤلاء القوم وضحالة عقولهم ؛ لوجوه :
أن أبو جهل وأتباعه قد سبقوهم بها ، حينما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : " إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) القصص " .
أن يعلم المسلم الناصح لنفسه أن حب الدنيا وما فيها من ملذات والخوف على ضياع ما في اليد من متاع ذائل ، هو سبب كفر معظم المشركين ، كما أنه ليس عذر فى كفر الكافرين .
قال تعالى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) .. سورة النحل .
وقال تعالى : فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) .. سورة المائدة .
أن أول ضرورة كلفنا الله بالمحافظة عليها هى الدين ( الدين ثم النفس ثم العقل فالعرض فالمال ) ، وهى أول شىء يُسأل عنه العبد فى قبره "من ربك ، وما دينك ، وما النبى الذى بعث فيكم " ، وأن أعظم وأجل مسألتين يُسأل عنهما الأولون والآخرون يوم القيامة هما : ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ؟ .. ( انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية جزء التفسير سورة هود ، زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم جـ1 المقدمة ، تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي صـ 88 ، الصارم المنكى لابن عبد الهادى صـ 241 ، الرسائل الشخصية لابن عبد الوهاب الرسالة 25) .. فمن المعلوم ضرورة أنه لا أعظم مصلحة من مصلحة الحفاظ على الدين والدفاع عنه وهذا مجمع عليه بين جميع أهل الملل ( انظر : الموافقات للشاطبى ، المقدمة الثالثة ، جـ 1 ، صـ 38 ) .
ومن المجمع عليه كذلك أن الكفر لا يباح إلا عند الإكراه كما قال تعالى {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:106] ، قال ابن القيم رحمه الله (( ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الإغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان )) اهـ .
أن الذى يُقِّر بأن التحاكم عبادة لا يجوز صرفها لغير الله ، ثم يجادل بهذه الشبهة .. يلزمه أن يقول بأن المسلم فى ديار الكفر إذا خُيير بين أن يستغيث بغير الله أو يُقدِّم قرابين لغير الله أو يدعوا غير الله ، وبين أن يُرد عليه ماله الذى اغتصب أو سرق منه ، فعليه أن يختار هذا الكفر فى سبيل المحافظة على ماله .
عليك أن تتأمل قول الله تعالى : " ألمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء " .. ثم انظر لحال القوم ، فهم يقولون يريد الله منا المحافظة على أموالنا وأعراضنا و سيسألنا عنها يوم القيامة ، ونسى المساكين أنها إرادة الشيطان ، فالله عز وجل لما أمرنا بالمحافظة على هذه الأمور شرع لنا الطريقة التى نحافظ بها على تلك الأمور ، والتى لا تتصادم مع حكمه وشرعه ودينه .. ثم انظر إليهم تجدهم يسمون ذلك ( طلب حق ) والله يسميه ( ضلالاً بعيداً ) ، فنقول لهم كما قال ربنا : " قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ " ونقول لهم أيضا : " إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) النجم " .
ثم أعلم أرشدك الله إلى دين الأنبياء والمرسلين أن أوجب حق علي العبد فى هذه الحياة الدنيا هو عبادة الله وحده لا شريك له والذى يتضمن إفراد الله جل شأنه بالحكم والتحاكم ، فهنيئا لمن سعى وجاهد فى طلب هذا الحق ، وتعسا لمن تقاعس عن تحصيل هذا الحق ، يقول ابن القيم رحمه الله : " لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربي فيها الصغير ، وهرم عليها الكبير ، فلم يروها منكرا " اهـ ( انظر الفوائد ، صـ 47 ) .
الشبهة السادسة : قول محمد صلى الله عليه وسلم عن حلف من أحلاف الجاهلية " لو دعيت لمثله فى الإسلام لأجبت " .
وقول يوسف عليه السلام : " هى راودتنى عن نفسى " ، وكذا قوله " ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة التى قطعن أيديهن " .
يرى البعض أن هذا الحلف الذى يتحدث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم تتوفر فيه عناصر الحكم والتحاكم من فض للنزاعات بين الظالم والمظلوم ، وأن القائمين على هذه المهمة هم من أكابر المشركين ، وبالتالي لا يجوز لأحدٍ ـ إلا إذا آثر الكفر على الإيمان ـ أن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر التحاكم إلى الطاغوت ؛ لأن القائمين على حلف المطيبين كانوا من الكفار المشركين .. كما أن قول يوسف لما اتهمته امرأة العزيز بقولها: ( ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم .... ، قال هي راودتني عن نفسي، وشهد شاهدٌ من أهلها…) من باب التحاكم للطاغوت .
وللرد على هذه الشبه نقول : الله المستعان على ما تصفون ، وسيكون تفنيد هذا الهراء والإجتراء على مقام الأنبياء من وجهين أحدهما مجمل والآخر مفصل :
أن المجادل بهذا الكلام ، يجهل أو ربما يتجاهل ـ إن كان من أئمة الضلال ـ الفرق بين التظلم والتحاكم (( وهو ما بيناه باستفاضة فى آخر البحث ، ولا إشكال فى أن نذكر ملخصه هنا )) ،
ـ فالتظلم هو / طلب رفع الظلم عن النفس أو عن الغير من ذوى السلطان والولاية ، وهو ما يسمى بـ " الاستعانة على تغيير المنكر "
ـ أما التحاكم ـ كما عرفناه فى مطلع البحث ـ فهو / طلب حكم جهة معينة ؛ لفض خصومة أو مظلمة.
مما سبق نفهم أمرين :
الأمر الأول : أن التحاكم عملية تتم عقب عملية التظلم ، بمعنى أن التحاكم ليس إلا
طلب الحكم فى التظلم .
الأمر الثانى : هناك فرق بين طلب دفع أورفع المظلمة ، وبين طلب الحكم فى هذه
المظلمة .
وهذا ما أفضنا فى بيانه فى المبحث الأول ، ولا داعى للإكثار منه هنا .
أولاً / بالنسبة لحلف الفضول : يتحدث عن التظلم لا التحاكم ، شواهد ذلك ؛
ـ ما ذكره الإمام البيهقى رحمه الله عندما قال : " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن أنكثه وأن لى به حمر النعم ولو أدعى به في الاسلام لأجبت - (قال القتيبى) فيما بلغني عنه وكان سبب الحلف ان قريشا كانت تتظالم بالحرم فقام عبد الله بن جدعان والزبير ابن عبد المطلب فدعوهم إلى التحالف على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم فأجابهما بنو هاشم وبعض القبائل من قريش "اهـ ( انظر / السنن الكبرى للبيهقى ، جـ6 ، صـ 367 ) .
ـ وقال أيضا : " قال أحمد : وكان سبب الحلف فيما زعم أهل التواريخ ، أن قريشا كانت تتظالم بالحرم ، فقام عبد الله بن جدعان ، والزبير بن عبد المطلب ، فدعوا إلى التحالف على التناصر ، والأخذ للمظلوم من الظالم ، فأجابهما بنو هاشم ، وبعض القبائل من قريش ". اهـ ( انظر : معرفة السنن والآثار للبيهقى ، جـ 11 ، صـ 134 ).
ـ وقال ابن كثير رحمه الله : " و كان حلف الفضول أكرم حلف سمع به و أشرفه في العرب و كان أول من تكلم به و دعا إليه الزبير بن عبد المطلب و كان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن و ائل فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار و مخزوما و جمحا و سهما و عدي بن كعب فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل و زبروه ـ أي انتهروه ـ فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس و قريش في أنديتهم حول الكعبة فنادى بأعلى صوته :
( يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار و النفر )
( و محرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال و بين الحجر و الحجر )
( إن الحرام لمن تمت كرامته ... و لا حرام لثوب الفاجر الغدر )
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب و قال : ما لهذا مترك .. فاجتمعت هاشم و زهرة و تيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما و تحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام فتعاقدوا و تعاهدوا بالله ليكونن يدا و احدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة و مارسي ثبير و حراء مكانهما و على التآسي في المعاش ، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول و قالوا : لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه " أهـ . ( انظر : سيرة ابن كثير ـ باب سبب حلف الفضول ـ جـ1 ص 259 ) .
ثم إنك إذا تأملت نص حديث النبى صلى الله عليه وسلم ، عندما قال عن حلف الفضول : " وَلَوْ دُعِيت بِهِ الْيَوْم فِي الْإِسْلَام لَأَجَبْت " انظر فتح البارى لابن حجر،كتاب الحوالات ، ( بَاب قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) ) .. لأفادك فائدتين هما :
الفائدة الأولى : أنِّ ( لو ) حرف امتناع لامتناع. أي: تدل على امتناع الثاني لامتناع الأول ، كما يقول جمهور أهل اللغة . ( انظر : الجنى الداني في حروف المعاني ، الحسن بن القاسم المرادي ت749)، تحقيق فخر الدين قباوة، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان ط1، صـ 105).. أى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعقد مثل هذا الحلف ، ولم يُدعى إلى عقده .
الفائدة الثانية : أنَّ (دُعِيت) فعل ماضى مبنى للمجهول ، يدُل على أن النبى صلى الله عليه وسلم لو دُعى إلى هذا الحلف لأجاب ، فتكون إجابته صلى الله عليه وسلم بذلك تشريعاً ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم المُشرِّع عن ربه ، وهذا بنص التنزيل ، قال تعالى : " وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) سورة الحشر " .. ويؤكِد هذا قول النبى صلى الله عليه وسلم " الْيَوْم فِي الْإِسْلَام " ، فهذه عبارة تفيد التخصيص ، أى أن تكون الدعوة إلى هذا الحلف أو لمثله اليوم فى الإسلام ، أى فى وقت وزمن وجود النبى صلى الله عليه وسلم .
ثانيا : بالنسبة لقول يوسف عليه الصلاة والسلام ( هى راودتنى عن نفسى ) ، وقوله ( ارجع إلى ربك فاسأله مابال النسوة اللاتى قطعن أيديهن ) ،
ليس إلا محاولة منه عليه السلام لدفع التهمة عن نفسه فى المرة الأولى ، وإظهار برائة عرضه ونزاهته فى المرة الثانية ، وهذا قد يتعرض له أي مسلم في حياته اليومية ، فيتوجب عليه الكلام ليدفع عن نفسه الكذب والافتراء . وهذا ما يسمى ـ شرعاً وعرفاً وعقلاً ولغةً ـ بدفع الظلم لا طلب الحكم .. وما أشبه ذلك بموقف أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام مع قومه ، قال تعالى : " قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) الأنبياء " ، .. ومن ثم فلم يبق للقوم إلا أن يترددوا بين ضلالتين هما :
الضلالة الأولى : أن يقولوا أن يوسف عليه السلام تحاكم للطاغوت وهذا جائز عند الضرورة ، ثم يقولون ونحن إذا تعرضنا لمثل هذا لا نتحاكم ونصبر ورعا واتقاءا للشبهات .. وهذا كلام فاسد يصل بصاحبه إلى الكفر ؛ لأنه يتضمن إلحاق وصف الكفر ـ وهو التحاكم للطاغوت ـ بنبى من أنبياء الله ، كما يتضمن تزكية النفس وتفضيلها على مقام النبوة .
الضلالة الثانية : أن يقولوا نحن نوافقكم ، فيوسف عليه السلام فى هاتين الحالتين ( يطلب حقه ) وليس ( يتحاكم للطاغوت ) وهذا ما نفعله نحن اليوم عندما نذهب لمحاكم الطاغوت ، والجواب : أنكم بهذا الزعم الفاسد حاولتم الهروب مما فيه وقعتم وحكمتم على أنفسكم بالكفر أيضا .
بيان ذلك : أنكم تقولون ( أن يوسف عليه السلام يطلب حقه كما نفعل اليوم عندما نذهب لمحاكم الطاغوت ) ، ومعلوم أن هذا تكذيب لنص القرآن ولفعل يوسف عليه السلام ، فيوسف عليه السلام لم يطلب حقه ممن ظلمه ، كما أنه لم يطلب أن يُرَد له اعتباره ـ كما يحدث اليوم فى محاكم الطاغوت ـ ، ولم يطلب الطعن في الحكم - كما يفعل في المحاكم اليوم – عندما حُكِمَ عليه بالسجن ظلماً ، الأمر الذي أوجب له المكوث في السجن بضع سنين ظلماً ، بل صبر عليه السلام لحكم الله لعلمه أن الحكم في حقيقته بيد الله وحده ، ولهذا قال عليه السلام : { رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه} الآية ، فيوسف عليه السلام كان حريصاً كل الحرص كما هو معلوم على أن لا يتحاكم إلى غير شريعة الله عز وجل ، فهو يعلم أحكام الجاهلية والطواغيت ولا يمكن أن يتحاكم إليها أو يقبل أو يطلب أو يقر بأي جزئية منها ، وذلك تجده واضحاً جلياً في قوله تعالى : {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} الآية . ودين الملك هنا المراد حكمه وشريعته كما قال أهل التفسير .
الشبهة السابعة : قول يوسف عليه السلام ( اذكرنى عند ربك )
أولا : بالنسبة لشبهة القوم فى هذه الآية ( اذكرنى عند ربك ) :
يرى بعضهم أن هذا القول الصادر من يوسف عليه السلام بمثابة طلب استئناف الحكم من الملك فى القضية التى حوكم فيها من قبل ظلماً ، بينما يرى آخرون أن هذا أشبه ما يكون بإرسال دعوى على يد محامٍ لرفع قضية عند الطاغوت .
ثانيا : بالنسبة لتفسير الآية ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ :
" قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } قِيلَ أُنْسِيَ يُوسُفُ ذِكْرَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } . وَقِيلَ : بَلْ الشَّيْطَانُ أَنْسَى الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا ذِكْرَ رَبِّهِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقَرِيبِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَنْسَ ذِكْرَ رَبِّهِ ؛ بَلْ كَانَ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ . وَقَدْ دَعَاهُمَا قَبْلَ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ وَقَالَ لَهُمَا : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . وَقَالَ لَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } أَيْ فِي الرُّؤْيَا { إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } يَعْنِي التَّأْوِيلَ { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } فَبِذَا يَذْكُرُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا عَلَّمَهُ رَبُّهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مِلَّةَ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ آبَائِهِ أَئِمَّةَ الْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَئِمَّةً يَدْعُونَ بِأَمْرِهِ - إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ؛ فَذَكَرَ رَبَّهُ ثُمَّ دَعَاهُمَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ . ثُمَّ بَعْدَ هَذَا عَبَرَ الرُّؤْيَا فَقَالَ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } الْآيَةُ ثُمَّ لَمَّا قَضَى تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ أَنْسَى الشَّيْطَانُ يُوسُفَ ذِكْرَ رَبِّهِ ؟ وَإِنَّمَا أَنْسَى الشَّيْطَانُ النَّاجِيَ ذِكْرَ رَبِّهِ أَيْ الذِّكْرَ الْمُضَافَ إلَى رَبِّهِ وَالْمَنْسُوبَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدَهُ يُوسُفَ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ قَالُوا : كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَلَا يَقُولَ اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك . فَلَمَّا نَسِيَ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ جُوزِيَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ . فَيُقَالُ : لَيْسَ فِي قَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مَا يُنَاقِضُ التَّوَكُّلَ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ يُوسُفُ : { إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ } كَمَا أَنَّ قَوْلَ أَبِيهِ : { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } لَمْ يُنَاقِضْ تَوَكُّلَهُ ؛ بَلْ قَالَ : { وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } . و " أَيْضًا " فَيُوسُفُ قَدْ شَهِدَ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ وَالْمُخْلِصُ لَا يَكُونُ مُخْلِصًا مَعَ تَوَكُّلِهِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ وَيُوسُفُ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا لَا فِي عِبَادَتِهِ وَلَا تَوَكُّلِهِ بَلْ قَدْ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فَكَيْفَ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي أَفْعَالِ عِبَادِهِ . وَقَوْلُهُ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مِثْلُ قَوْلِهِ لِرَبِّهِ : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } فَلَمَّا سَأَلَ الْوِلَايَةَ لِلْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَا هُوَ مِنْ سُؤَالِ الْإِمَارَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ لِلْفَتَى : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ إخْبَارِ الْمَلِكِ بِهِ ؛ لِيَعْلَمَ حَالَهُ لِيَتَبَيَّنَ الْحَقُّ وَيُوسُفُ كَانَ مَنْ أَثْبَتِ النَّاسِ . وَلِهَذَا بَعْدَ أَنْ طُلِبَ { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } قَالَ { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } فَيُوسُفُ يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي تِلْكَ . وَيَقُولُ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ } فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ لَهُ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } تَرْكٌ لِوَاجِبِ وَلَا فِعْلٌ لِمُحَرَّمِ حَتَّى يُعَاقِبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ عَزَمُوا عَلَى حَبْسِهِ إلَى حِينِ قَبِلَ هَذَا ظُلْمًا لَهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ الذَّنْبِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } وَلُبْثُهُ فِي السَّجْنِ كَانَ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ؛ لِيَتِمَّ بِذَلِكَ صَبْرُهُ وَتَقْوَاهُ فَإِنَّهُ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى نَالَ مَا نَالَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَلَوْ لَمْ يَصْبِرْ وَيَتَّقِ بَلْ أَطَاعَهُمْ فِيمَا طَلَبُوا مِنْهُ جَزَعًا مِنْ السَّجْنِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الصَّبْرُ وَالتَّقْوَى وَفَاتَهُ الْأَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ .. إلى أن قال .. و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَذْكُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ اسْتِغْفَارَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ يُوسُفَ اسْتِغْفَارًا مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ . كَمَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ اسْتِغْفَارًا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْفَاحِشَةِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا فِي هَذَا وَلَا هَذَا ؛ بَلْ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ ؛ فَأُثِيبَ عَلَيْهِ حَسَنَةً .. وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي نَسِيَ رَبَّهُ هُوَ الْفَتَى لَا يُوسُفُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } وَقَوْلُهُ : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَسِيَ فَادَّكَر " اهـ ( مجموع الفتاوى 3 / 337 ) .
ثالثا : بالنسبة للرد على هذه الشبهة :
أن نقول كما قال يوسف عليه السلام ( الله المستعان على ماتصفون ) .. فيوسف عليه السلام لم يطلب استئناف الحكم من الحاكم ، وكذلك لم يرسل دعوه مع محامى إلى محكمة الطاغوت ؛ لأن كلا الأمرين يعد تحاكما للطاغوت .
ولكن كل ما فعله عليه السلام أنه ( استعان بمكانة الساقى ومنزلته التى سيكون عليها فى القصر الملكى فيما بعد ، وذلك استناداً إلى الرؤيا التى فسرها له بعلم أعلمه الله إياه ؛ لكى يشفع له ذلك الساقى عند الملك فيخرج من السجن ويُبَلِّغ دعوة التوحيد ) .
ـ قلنا أنه لم يطلب استئناف الحكم ؛ لأنه عليه السلام لم يُسجن نتيجة محاكمة ، ولكن بأمر من العزيز حتى لا يفتضح أمره. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : " ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين ، أي إلى مدة ، وذلك بعد ما عرفوا براءته وظهرت الآيات ، وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته ، وكأنهم ـ والله أعلم ـ إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاماً أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك. ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة. فلما تقرر ذلك ، خرج وهو نقي العرض صلوات الله عليه وسلامه. وذكر السدي أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه ، ويبرأ عرضه فيفضحها . " أهـ
ـ وقلنا أن هذا ليس يشبه مايسمى فى عصرنا بتوكيل محامى ؛ لرفع دعوه عند الطاغوت . لأن هذا لو كان جائزاً لما تركه يوسف من بداية الأمر عندما زُجَّ به فى السجن ظلما .
واخترنا القول بأنه عليه السلام أراد أن يعلم الملك معجزته وهى تعبيره للرؤيا ، والتى بموجبها يستطيع أن يُبرهِن على نبوته ، ثم يخبر الملك أنه محبوس ظلماً حتى يُبرهِن على عفته ونزاهته ، إذ أن العادة قد جرت بأنه لا يدخل السجن إلا الآثمين ، وقد ذكر ابن كثير أنه عليه السلام قد دعا ملك مصر ـ الريان بن الوليد ـ إلى التوحيد فأسلم . وهناك من كلام المفسرين ما يؤكد ما ذهبنا إليه .
يقول القرطبى فى تفسير الآية:
أي اذكر ما رأيته، وما أنا عليه من عبارة الرؤيا للملك، وأخبره أني مظلوم محبوس بلا ذنب .ا هـ
يقول صاحب تفسير البحر المحيط فى هذه الآية :
فالمعنى أن يوسف عليه السلام قال لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك : اذكرني عند الملك أي : بعلمي ومكانتي وما أنا عليه مما آتاني الله ، أو اذكرني بمظلمتي وما امتحنت به بغير حق . وهذا من يوسف على سبيل الاستعانــة والتعاون في تفريج كربه ، وجعله بإذن الله وتقديره سبباً للخلاص كما جاء عن عيسى عليه السلام : { من أنصاري إلى الله } وكما كان الرسول يطلب من يحرسه . والذي أختاره أن يوسف إنما قال لساقي الملك : اذكرني عند ربك ليتوصل إلى هدايته وإيمانه بالله ، كما توصل إلى إيضاح الحق للساقي ورفيقه .ا هـ
الشبهة الثامنة : حادثة أخوة يوسف :
قال تعالى حاكيا عن أخوة يوسف عليه السلام : قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) .
فيستدل البعض بهذه الآيات على أن الأسباط طلبوا من عزيز مصر ـ أخاهم يوسف قبل أن يعرفوه ـ تبديل الحكم الذى صدر بشان أخاهم بنيامين ، وهذا يدخل فى باب التحاكم المنهى عنه شرعا ، بدليل أن أخاهم الصديق قال لهم ( معاذ الله ........ إن إذا لظالمون ) أى لو أجبتكم إلى مرادكم .
فنقول : الله المستعان على ما تصفون ، اللهم إنا نبرأ إليك من هذا الإفترأ ، والتجرؤ على مقام الأنبياء ، حفدة إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام .
والرد على ما سبق من وجوه هى كالتالى :
أولا : أن نحدد المقصود من قولة أخوة يوسف ( فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ) من الوجهة الشرعية ، وفقا لسياق الآيات ووفقا لفهم أهل العلم ، ومن ثم نحدد مرادهم ، وهل هو داخل فى معنى التحاكم ، أم خارجاً عن معناه .. فنقول سبق وأن أوضحنا معنى التحاكم ، وفرقنا بينه وبين الحكم والقضاء ، فى صدر البحث ، فذكرنا :
؛ أنَّ التحاكم هو (( طلب حكم جهة معينة ؛ لفض خصومة أو مظلمة .... وفيها يظهر دور المتحاكمين )) .
وأنَّ الحُكم هو (( الفصل فى هذا النزاع " المظلمة " على سبيل الإلزام .... وفيها يظهر دور الحاكم أو القاضى )) .
وأنَّ القضاء هو (( السعى فى تنفيذ هذا الحكم المُلزم به .... وفيها يظهر دور القاضى ومعاونوه )) .
إذا فهمت هذا فاعلم أن قول أخوة يوسف (فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ) ، ثم تعقيب أخيهم الصديق عليه مباشرة (مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ) .. قد خرج عن مرحلتى التحاكم والحكم ، وجاء قبل مرحلة القضاء والتنفيذ ، وخير ما يبين ذلك كلام ربنا القرآن ، وهو ما يُفهم من خلال تسلسل أحداث القصة والقضية .
قال تباك وتعالى : فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
فأخوة يوسف طلبوا تحكيم شريعة الله التى عرفوها عن أبيهم عليه السلام ، وحكموا بها على أنفسهم ورضوا بنتيجة حكمها عندما أقروا على أخيهم بالسرقة ، بل أوضحوا لعزبز مصر ـ الذى لم يعرفوا أنه أخاهم بعد ـ بأن فعلة بنيامين هذه ليست بغريبه عليه ؛ فشقيقه لأبويه ـ يعنون يوسف ـ كان مثله سارق .
أى أنهم بعد انتهاء عمليتى التحاكم والحكم وصدور الحكم والإقرار به ... جاءت شفاعتهم فى أخيهم على سبيل ( الحمالة ) أى أنهم أرادوا أن يتحملوا عنه جُرمَهُ الذى اقترفه ، فغضب يوسف الصديق لذلك وقال (مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ) .. وليس هذا بمستغرب على الكربم بن الكريم بن الكريم ، وقد فعلها من بعده خاتم النبيين وإمام المرسلين يوم تَمعَّر وجهُه من الغضب وقال لِحبِه ـ أسامه بن زيد رضى الله عنه ـ ثكلتك أُمُك يا أسامة ، أتشفع فى حد من حدود الله ، وأيمُ الله لو أن فاطمةَ بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ، وكان هذا كله عقب صدور الحكم فى المرأة المخزومية وقبل القضاء والتنفيذ .
وبالنسبة للآيات السابقة فلنرجع إلى تفسير القرطبى إذ يقول :
قوله تعالى : { قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه } خاطبوه باسم العزيز إذ كان في تلك اللحظة بعزل الأول أو موته وقولهم : ( إن له أبا شيخا كبيرا ) أي كبير القدر ولم يريدوا كبر السن لأن ذلك معروف من حال الشيخ ( فخذ أحدنا مكانه ) أي عبدا بدله وقد قيل : إن هذا مجاز لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل من قد أحكمت السنة عندهم رقه وإنما هذا كما تقول لمن تكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا وكذا وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك مبالغ في استنزاله ويحتمل أن يكون قولهم : ( فخذ أحدنا مكانه ) حقيقة وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يروا استرقاق حر فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة أي خذ أحدنا مكانه حتى ينصرف إليك صاحبك ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه ويعرف يعقوب جلية الأمر فمنع يوسف عليه السلام من ذلك إذ الحمالة في الحدود ونحوها - بمعنى إحضار المضمون فقط - جائزة مع التراضي غير لازمة إذا أبى الطالب وأما الحمالة في مثل هذا على أن يلزم الحميل ما كان يلزم المضمون من عقوبة فلا يجوز إجماعا وفي ( الواضحة ) : إن الحمالة في الوجه فقط في جميع الحدود جائزة إلا في النفس وجمهور الفقهاء على جواز الكفالة في النفس واختلف فيها عن الشافعي فمرة ضعفها ومرة أجازها
قوله تعالى : { إنا نراك من المحسنين } يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم ويحتمل أن يريدوا : إنا نرى لك إحسانا علينا في هذه اليد إن أسديتها إلينا وهذا تأويل ابن إسحق
قوله تعالى : { قال معاذ الله } مصدر { أن نأخذ } في موضع نصب أي من أن نأخذ { إلا من وجدنا } في موضع نصب بـ ( نأخذ ) { متاعنا عنده } أي معاذ الله أن نأخذ البريء بالمجرم ونخالف ما تعاقدنا عليه { إنا إذا لظالمون } أي أن نأخذ غيره .أهـ
وجاء فى تفسير البحر المحيط لأبى حيان مانصه :
ومعنى مكانه أي : بدله على جهة الاسترهان أو الاستعباد ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : يحتمل قولهم أن يكون مجازاً ، وهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حرّ بسارق بدل من قد أحكمت السنة رقه ، وإنما هذا كمن يقول لمن يكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا وكذا ، وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله ، وعلى هذا يتجه قول يوسف : معاذ الله لأنه تعوذ من غير جائز . ويحتمل أن يكون قولهم حقيقة ، وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يريدوا استرقاق حر ، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة ، أي : خذ أحدنا حتى ينصرف إليك صاحبك . ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه ويعرف يعقوب جلية الأمر . وقوله : من المحسنين ، وصفوه بما شاهدوه من إحسانه لهم ولغيرهم ، أو من المحسنين إلينا في هذه اليد إنْ أسديتها إلينا ، وهذا تأويل ابن إسحاق ومعاذ الله تقدم الكلام فيه في قوله : معاذ الله إنه ربي ، والمعنى : وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده . فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم ، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم ، وباطنه أن الله أمرني وأوحى إلي بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة ، أو مصالح جمة علمها في ذلك . فلو أخذت غير من أمرني بأخذه كنت ظالماً وعاملاً على خلاف الوحي . وأن نأخذ تقديره : من أن نأخذ ، وإذن جواب وجزاء أي : إن أخذنا بدله ظلمنا . وروي أنه قال لما أيأسهم من حمله معهم : إذا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه السلام وقولوا له : إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف ، ليعلم أنّ في أرض مصر صديقين مثله .أهـ
وبالنسبه لحديث أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ .......... متفق عليه ، فهذا نصه :
حديث عَائِشَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالَ: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِى عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا، إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا أخرجه البخاري في:كتاب الأنبياء: باب حدثنا أبو اليمان . ومسلم فى:كتاب الحدود: باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود .
ثانيا : أن الذى يتحدث بهذه الشبهة يخلط بين معنى وحدود كلا من ( التحاكم ـ الحكم ـ القضاء ) ولا يستطيع أن يفرق بينها وبين ( الشفاعة ) .
فالشفاعة في الشرع: هي التوسط للغير بجلب خير له أو دفع شر عنه ، ويعرفها بعض العلماء بقوله: الشفاعة هي سؤال الخير للغير ، الشفاعة في أمور الدنيا : المقصود بها: شفاعة إنسان لآخر عند السلطان أو صاحب الجاه أو المنصب؛ ليقضي له حاجته ، وهي نوع من أنواع التعاون بين المسلمين ووسيلة من وسائل الألفة والمحبة إذا كان المشفوع إليه يملك التصرف فيما طلب منه على مقتضى الأسباب العادية ، ومن يشفع لأحد في الخير كان له نصيب من الأجر والثواب ، كما أن من شفع بالباطل كان له نصيب من الوزر ، قال تعالى: سورة النساء الآية 85 مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: " اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء .
الشفاعة في الدنيا على قسمين: قسم محمود ومشروع وهو الشفاعة في الأمور المباحة التي يترتب عليها جلب النفع للمسلم دون التعدي فيها على حق من حقوق الله عز وجل أو حقوق الناس .
وأما القسم الثاني: فهي الشفاعة التي يترتب عليها إسقاط حد من حدود الله عز وجل ، أو ظلم لأحد من الناس ، أو إبطال حق .
يقول النووي رحمه الله تعالى: " استحباب الشفاعة لأصحاب الحوائج المباحة سواء كانت الشفاعة إلى سلطان ووال ونحوهما أم إلى أحد من الناس ، وسواء كانت الشفاعة إلى سلطان في كف ظلم أو إسقاط تعزير ، أو في تخليص عطاء لمحتاج ، أو نحو ذلك ، وأما الشفاعة في الحدود فحرام ، وكذا الشفاعة في تتميم باطل أو إبطال حق ونحو ذلك فهي حرام ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ الحد السلطان فلعن الله الشافع والمشفع .
وقد وردت أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم تحذر من الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان .
ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت.... ومنها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت " رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ سنن أبو داود الأقضية (3597),مسند أحمد بن حنبل (2/70) ـ يقول: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله عز وجل فقد ضاد في الله أمره . . . الحديث .
وقد نص العلماء رحمهم الله تعالى على أن الشفاعة لا تقبل في الحدود إذا بلغت الحاكم ، يقول الإمام النووي رحمه الله عند ذكر الإمام مسلم لحديث عائشة السابق وغيره يقول: " ذكر مسلم رضي الله عنه في الباب الأحاديث في النهي عن الشفاعة في الحدود وأن ذلك هو سبب هلاك بني إسرائيل ، وقد أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام للأحاديث وعلى أنه يحرم التشفع فيه " شرح صحيح مسلم للنووي (11 / 186).
ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " اختلف العلماء في ذلك فقال أبو عمر بن عبد البر : لا أعلم خلافا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان ، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته ، وذكر الخطابي وغيره عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذى الناس ومن لم يعرف ، فقال: لا يشفع للأول مطلقا سواء بلغ الإمام أم لا ، وأما من لم يعرف بذلك فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام " فتح الباري لابن حجر (12 / 95). أهـ (( انظر معتقد أهل السنة والجماعة في الشفاعة للدكتور : عبد الله بن سليمان الغفيلي مجلة البحوث الإسلامية(الجزء رقم : 64، الصفحة رقم: 119 ))
الشبهة التاسعة : كلام الشيبانى فى السير الكبير:
يقول أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ فى شرح السير الكبير للشيبانى ـ بَابُ مَا لَا يَكُونُ فَيْئًا وَإِنْ أُحْرِزَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ ـ : (( وَلَوْ اسْتَوْدَعَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا شَيْئًا وَأَذِنَ لَهُ إنْ غَابَ أَنْ يُخْرِجَهُ مَعَهُ فَارْتَدَّ الْمُودَعُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَلَحِقَهُ صَاحِبُهُ وَطَلَبَهُ مِنْهُ فَمَنَعَهُ ، وَاخْتَصَمَا فِيهِ إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ ، فَقَصَرَ يَدَ الْمُسْلِمِ عَنْهُ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَالْوَدِيعَةُ لِلْمُودِعِ لَا سَبِيلَ لِصَاحِبِهَا عَلَيْهَا )).
ويقول أيضا فى نفس الباب : (( وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا ، وَجَحَدَهُ ، فَاخْتَصَمَا إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ ، فَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ ، وَالرَّجُلَانِ مُسْلِمَانِ عَلَى حَالِهِمَا ، فَالْمَغْصُوبُ مَرْدُودٌ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ .
لِأَنَّ رَدَّ الْعَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْغَاصِبِ ، بِحُكْمِ اعْتِقَادِهِ ، فَإِسْلَامُ أَهْلِ الدَّارِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً ، وَبِقُوَّةِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُسْلِمُ لَا يَصِيرُ مُحْرِزًا مَالَ الْمُسْلِمِ ، وَلَا مُتَمَلِّكًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَيْفَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ )).
ويقول أيضا ـ (( بَابٌ مِنْ فِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمُوَادَعَةِ وَمَا يَكُونُ مُحْرَزًا بِغَصْبِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا لَا يَكُونُ ـ : وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَغَصَبَهُ حَرْبِيٌّ مَالًا ثُمَّ أَسْلَمُوا ، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً ... فَإِنْ اخْتَصَمَا إلَى مَلِكِهِمْ فَجَحَدَ الْغَاصِبُ وَقَالَ : هَذَا مِلْكِي ، مَا أَخَذْته مِنْهُ ، فَأَقَرَّهُ مَلِكُهُمْ فِي يَدِهِ ، حَتَّى يَأْتِيَ الْمُسْلِمُ بِحُجَّةٍ ، ثُمَّ أَسْلَمُوا ، فَذَلِكَ سَالِمٌ لِلْغَاصِبِ . لِأَنَّ إحْرَازَهُ فِيهِ قَدْ تَمَّ بِتَقْرِيرِ مَلِكِهِمْ لِيَدِهِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ )) .
ووجه الاستدلال لدى من يروِّج لهذه الشبهة ، أنَّ الإمام الشيبانى رحمه الله يُسمِّى من يقوم بالاختصام ( التحاكم ) إلى سلطان دار الحرب ( الطاغوت ) مسلما ً.
هذا من الشبه التي يحتج بها من يجيز التحاكم إلى الطاغوت وهو دأب أهل الزيغ والضلال فإنهم يتركون المحكم من كتاب الله تعالى و يتمسكون بالمتشابه ، و هذا المتشابه ليس متشابه في كتاب الله لكنه متشابه في كلام من ليس بمعصوم ، فإذا كان من يَتَّبِع المتشابه من كتاب الله يجب الحذر منه لأنه من أهل الزيغ و الضلال ، فكيف بمن يَتَّبِع كلام أهل العلم المُشتبَه الذي يجمع بين عدم الحجة و الاشتباه فإن كلام أهل العلم من جهة الاحتجاج لا يُحتج به بإجماع أهل العلم فالحجة في الكتاب و السنة و الإجماع ولأن كل إنسان يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فأقصى ما يفيده كلام الشيباني أنه كلام غير محكم تخالفه نصوص الكتاب و السنة و الإجماع ، فالذي يجب على المسلم أن يَكِل ما ذكره الشيباني إلى مراد يقصده الشيباني .
و أجمع العلماء على أنه يجب التمسك بالمحكم و الإعراض عن المتشابه فإذا كان هذا في كلام الله فمن باب أولى أن يعرض عن المتشابه من كلام العلماء .
أما كلام الشيباني فكشف المشتبه في هذا الكلام يكون فى محورين :
المحور الأول: يجب أن نفرق بين التحاكم إلى القاضي الذي يحكم بحكم الطاغوت و يفصل بين الناس و بين السلطان الذي له القوة و القدرة لا الفصل في القضايا فالتحاكم إلى الطاغوت الذي حكم الله تعالى أن من وقع فيه لم يكفر بالطاغوت هو طلب الفصل في قضية نزاع سواء كانت هذه القضية علمية أو عملية فمن تحاكم إلى غير حكم الله تعالى و جعل غير حكم الله هو الذي يفصل في القضايا فهذا ممن آمن بالطاغوت لأنه جعل الحكم لغير الله و الحكم لا يكون إلا لله تعالى .
أما رفع الأمر إلى السلطان ففيه تفصيل ، فإن كان المقصود بالسلطان أي الذي له السلطة و القدرة و السلطان فلا إشكال ؛ لأنه قد يكون داخلاً فى معنى التظلم أو الإستعانة ، وقد ورد في كتاب الله تعالى السلطان بمعنيين بمعنى الحجة و بمعنى القوة و القدرة .
قال تعالى :{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ }آل عمران151 ، وقال تعالى : {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }الأنعام81 ، وقال تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }الأعراف 33.
هذه الآيات أتت بمعنى سلطان الحجة و البرهان .
و هناك آيات أخرى أتت بمعنى سلطان القدرة و القوة ، قال تعالى : {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }إبراهيم22 ، زقال تعالى : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ }الحجر42 ، وقال تعالى : {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ }النحل99 ـ 100 ، وقال تعالى : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً }الإسراء65.
فالتحاكم إلى الطاغوت بمعنى طلب حجته و برهانه للفصل بين المتخاصمين أو طلب ما يشكل على بعض الناس من الطاغوت فهذا هو معنى الرضا بحكم الطاغوت بحيث يجعل حكم الطاغوت هو الأصل عند الرجوع لا إلى حكم الله تعالى فمن طلب سلطان الحجة من الطاغوت فهذا هو الراضى بحكم الطاغوت .
أما من طلب سلطان القدرة والقوة فهذا لا يكون متحاكم إلى الطاغوت ويخرج ذلك من معنى التحاكم إلى معنى الاستجارة ، فقد يضطر المسلم إلى طلب سلطان الطاغوت و لا يكون هذا كفراً فالنبي صلى الله عليه و سلم طلب من المطعم بن عدي الجوار و كان طلب لسلطان القوة ، و طلب أبو بكر رضي الله عنه جوار ابن الدغنة من باب طلب سلطان القوة ، و كذلك قبل عمر رضي الله عنه جوار العاص بن وائل ، و طلب الصحابة جوار النجاشي ، فكل هذا من باب طلب سلطان القوة و القدرة و لا يكون هذا كفراً ، أمَّا من طلب سلطان الحجة من المشركين فهذا لا يخالف مسلم أنه مشرك خارج من الإسلام قال تعالى : {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }الأنعام121 ، وقال تعالى : {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }الأعراف3 ، وقال تعالى : {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً }الإسراء73 .
و كلام الشيباني إنما في سلطان القوة و القدرة لا في سلطان الحجة ، قال الشيباني رحمه الله : ( وَاخْتَصَمَا فِيهِ إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ , فَقَصَرَ يَدَ الْمُسْلِم عَنْهُ ) .
و قال ( لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ , ثُمَّ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا , وَ جَحَدَه فَاخْتَصَمَا إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ , فَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ ) .
و قال ( فَإِنْ اخْتَصَمَا إلَى مَلِكِهِمْ فَجَحَدَ الْغَاصِبُ وَقَالَ : هَذَا مِلْكِي , مَا أَخَذْته مِنْهُ فَأَقَرَّهُ مَلِكُهُمْ فِي يَدِهِ , حَتَّى يَأْتِيَ الْمُسْلِمُ بِحُجَّةٍ ) .
من ناحية أخرى فالشيباني نفسه يفرق بين السلطان الذى يملك سلطان القوة والقدرة ، وبين القاضى الذى يملك سلطان الحجه والبرهان ، قال الشيباني في السير الكبيرـ بَابُ شِرَاءِ الْعَبْدِ الَّذِي يُؤْخَذُ بِالْقِيمَةِ ـ : ( فَإِنْ قِيلَ : الْقَاضِي أَجْبَرَهُ عَلَى أَنْ يُمَلِّكَهُ إيَّاهُ بِالثَّمَنِ فَهَبْ أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ بَاطِلًا ، فَهَذَا لَا يَكُونُ دُونَ مَا لَوْ أَجْبَرَ سُلْطَانٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ عَبْدٍ مِنْ فُلَانٍ ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ ، وَهُنَاكَ الْمُشْتَرِي يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ حَتَّى يَنْفُذَ فِيهِ تَصَرُّفَاتُهُ بِالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا . ) .
و قال ( وَ لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا ، وَجَحَدَهُ ، فَاخْتَصَمَا إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ ، فَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ ، وَالرَّجُلَانِ مُسْلِمَانِ عَلَى حَالِهِمَا ، فَالْمَغْصُوبُ مَرْدُودٌ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ .
لِأَنَّ رَدَّ الْعَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْغَاصِبِ ، بِحُكْمِ اعْتِقَادِهِ ، فَإِسْلَامُ أَهْلِ الدَّارِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً ، وَبِقُوَّةِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُسْلِمُ لَا يَصِيرُ مُحْرِزًا مَالَ الْمُسْلِمِ ، وَلَا مُتَمَلِّكًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَيْفَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ . ) .
و قال (وَهَذَا لِلْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حُكْمِ الدَّارِ هُوَ السُّلْطَانُ فِي ظُهُورِ الْحُكْمِ ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ حُكْمَ الْمُوَادِعِينَ فَبِظُهُورِهِمْ عَلَى الدَّارِ الْأُخْرَى كَانَتْ الدَّارُ دَارَ الْمُوَادَعَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ حُكْمَ سُلْطَانٍ آخَرَ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّارَيْنِ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ . ) .
و قال ( وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا اشْتَرَى فِينَا أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَجَاءَ مُسْتَحِقٌّ وَاسْتَحَقَّهَا لِنَفْسِهِ وَأَدَّى خَرَاجَهَا سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ الْقَاضِي الشُّهُودَ عَبِيدًا وَرَدَّ الْأَرْضَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَمْ يَكُنْ هُوَ ذِمِّيًّا .
لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ ، لَا بِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ ، وَهَا هُنَا قَدْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَرْضِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْخَرَاجُ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْخَرَاجِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ . وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَهَا مِنْهُ سُلْطَانٌ لَا يُقَاوِمُهُ الْمُسْتَأْمَنُ ، وَلَوْ غَصَبَهَا مَنْ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ ، فَلَمْ يَفْعَلْ ، فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ زَرَعَهَا فَالْمُسْتَأْمَنُ لَا يَكُونُ ذِمِّيًّا أَيْضًا . ) .
و قال رحمه الله ( وَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ الَّذِي هُوَ ضَامِنٌ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَمَعَهُ الْمَغْصُوبُ غَصَبَهُ مِنْهُ غَيْرُهُ فَاخْتَصَمَا فِيهِ إلَى سُلْطَانِهِمْ ، فَمَنَعَ السُّلْطَانُ الْغَاصِبَ الْأَوَّلَ أَنْ يَعْرِضَ لِلْغَاصِبِ الْآخَرِ فِيهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَذَلِكَ الْمَالُ لِلْغَاصِبِ الْآخَرِ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ .
لِأَنَّ إحْرَازَهُ لَهُ قَدْ تَمَّ حِسًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ غَلَبَهُ ، وَحُكْمًا بِقُوَّةِ سُلْطَانِهِمْ ، حِينَ قَصَرَ يَدَ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ عَنْ اسْتِرْدَادِهِ ، فَصَارَ هُوَ مَالِكًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ حِينَ أَخَذَهُ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا بِالْغَصْبِ ) .
و قال ( وَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْغَاصِبِ أَعْطَاهُ إيَّاهُ ثُمَّ وَثَبَ فَأَخَذَ مِنْهُ ثَانِيَةً وَقَصَرَ السُّلْطَانُ يَدَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الِاسْتِرْدَادِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَهُوَ سَالِمٌ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَصْبِ الْأَوَّلِ قَدْ انْتَهَى بِالرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا كَانَ لَزِمَهُ مِنْ رَدِّ الْعَيْنِ ، فَيَكُونُ أَخْذُهُ الْآنَ غَصْبًا ابْتِدَاءً ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، فَيَصِيرُ مُحْرِزًا لَهُ بِهَذَا الْغَــصْبِ ، حِينَ مَنَعَهُ السُّــلْطَانُ مِنْـهُ . ) .
و هنا فرق كذلك بين السلطان و القاضي فالاختصام هنا ليس الاختصام إلى الحجة و البرهان حتى تفصل بين المختصمين فيظهر المحق من المبطل إنما الاختصام هنا إلى سلطان القوة فالمسلم يطلب من السلطان رد حقه الذي اغتصبه خصمه بقوته ، ولا يطلب منه أن يفصل بينه و بين خصمه فتبين المحق من المبطل فيرد المبطل الحق إلى المحق بقوة الحجة ، فإذا رفع المسلم مظلمته إلى سلطان القوة و القدرة حتى يرد له حقه لا يكون هذا تحاكما بل تظلما ، فهناك فرق شاسع بين التحاكم والتظلم .
المحور الثانى : لو فُرض أن كلام الشيباني يحتمل المعنيين فلو كان هذا دليل من الكتاب و السنة لم يكن ترجيح أحد المعنيين إلا بدليل و إلا سقط به الاستدلال ، فكيف إذا كان كلام أحد العلماء فهو في نفسه لا يحتج به ، فكيف إذا كان محتملا لمعنيين حق و باطل .
قال صاحب أنوار البروق في أنواع الفروق ( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ حِكَايَةِ الْحَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ سَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال وَبَيْنَ قَاعِدَةِ حِكَايَةِ الْحَالِ إذَا تُرِكَ فِيهَا الِاسْتِفْصَالُ تَقُومُ مَقَامَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ وَيَحْسُنُ بِهَا الِاسْتِدْلَال ) هَاتَانِ قَاعِدَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ نُقِلَتَا عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا قَاعِدَةٌ وَاحِدَةٌ فِيهَا قَوْلَانِ لَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَخْ أَنَّ الدَّلِيلَ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذَا اسْتَوَتْ فِيهِ الِاحْتِمَالَاتُ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهَا سَقَطَ بِهِ الِاسْتِدْلَال لِقَاعِدَتَيْنِ ( الْقَاعِدَةُ الْأُولَى ) أَنَّ الِاحْتِمَالَ الَّذِي يُوجِبُ الْإِجْمَالَ إنَّمَا هُوَ الِاحْتِمَالُ الْمُسَاوِي أَمَّا الْمَرْجُوحُ فَلَا وَإِلَّا لَسَقَطَتْ دَلَالَةُ الْعُمُومَاتِ كُلُّهَا لِتَطَرُّقِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ إلَيْهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ ( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا احْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ صَارَ مُجْمَلًا وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَإِنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ إذَا تُرِكَ فِيهَا إلَخْ أَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ إذَا كَانَتْ فِي مَحَلِّ مَدْلُولِ اللَّفْظِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ دُونَ الدَّلِيلِ تَقُومُ مَقَامَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ وَيَحْسُنُ بِهَا الِاسْتِدْلَال بِمَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ إذَا تَرَكَ الِاسْتِفْصَالَ فِي قَضَايَا الْأَعْيَانِ وَهِيَ مُحْتَمَلَةُ الْوُقُوعِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ أَوْ وُجُوهٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مُتَّحِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ أَوْ الْوُجُوهِ ) .
وقال (لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ حِينَئِذٍ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الَّذِي يُوجِبُ الْإِجْمَالَ إنَّمَا هُوَ الِاحْتِمَالُ الْمُسَاوِي أَوْ الْمُقَارِبُ أَمَّا الْمَرْجُوحُ فَلَا ) قُلْتُ إيجَابُ الِاحْتِمَالِ الْمُسَاوِي الْإِجْمَالَ مُسَلَّمٌ وَأَمَّا إيجَابُ الْمُقَارِبِ فَلَا فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُتَحَقِّقَ الْمُقَارَبَةِ فَهُوَ مُتَحَقِّقُ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ وَإِنْ كَانَ مُتَحَقِّقَ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ فَهُوَ مُتَحَقِّقُ الْمَرْجُوحِيَّةِ فَلَا إجْمَالَ .
قَالَ ( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ إنَّ كَلَامَ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا احْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ صَارَ مُجْمَلًا وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قال العز بن عبد السلام في كتابه ( قواعد الأحكام في مصالح الأنام ) ( فَائِدَةٌ ) لَيْسَ قَوْلُ الْحَاكِمِ ( يَثْبُتُ عِنْدِي ) حُكْمًا بِهِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ إذَا أَطْلَقْت لَفْظَ الثُّبُوتِ فَإِنَّمَا أَعْنِي بِهِ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ الَّذِي يَثْبُتُ عِنْدِي ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ، فَمَنْ قَضَى بِأَنَّ لَفْظَ الثُّبُوتِ إخْبَارٌ عَنْ الْحُكْمِ كَلَفْظِ الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْمُتَرَدِّدَةَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ حَكَمٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ حَمْلُهَا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إلَّا أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً فِيهِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُهَا .
وَلَفْظُ الثُّبُوتِ قَدْ يُعَبِّرُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ الْحُكْمِ وَيُعَبِّرُ بِهِ الْأَكْثَرُونَ عَنْ غَيْرِ الْحُكْمِ ، فَمِنْ أَيْنَ لِمَنْ لَمْ يَقْضِ بِأَنَّ مُطْلَقَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إنَّمَا أَطْلَقَهَا بِإِزَاءِ الْحُكْمِ ، وَحَمْلُ الْمُجْمَلِ عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ فَمَا الظَّنُّ بِحَمْلِهِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ أهــــ
و كما ذكرنا أن محل كلام أهل العلم هذا في حال الإستواء في المعاني و نحن مسألتنا في محل ( التظلم إلى أ& الاستعانة بـ ) ذو السلطان لا التحاكم إليه أو إلى من ينوب عنه .
ثم أن هناك فرق لطيف بين ( السلطان & القاضى ) ، فالسلطان أو الملك ليس هو الذي يقضي بين الناس و يفصل بينهم فالسلطان هو الذي يلزم الناس بحكم القاضي ، و القاضي هو الذي يفصل بينهم عند الخلاف ، وهذا كذلك موجود في دول اليوم فإن السلطات اليوم ثلاث ( تشريعية & قضائية & تنفيذية ) والسلطة التشريعية هي التي تضع القوانين التي تعمل بها السلطة القضائية و السلطة التنفيذية فمن تحاكم إلى السلطة القضائية و طلب منها فصل الحكم فى (( الخصومة و المظلمة )) فهذا متحاكم إلى الطاغوت و من تظلم إلى السلطة التنفيذية و طلب منها أن تعطيه حقه ممن أخذه منه فهذا لا يكون تحاكم إلى الطاغوت حتى يطلب منهم فصل الحكم فى مظلمته ، أما إذا طلب منهم إنصافه من خصمه الذى ظلمه و رد حقه إليه بقوتهم فهذا لا يكون متحاكم إلى الطاغوت و هذا المعنى هو المقصود بحديث حلف الفضول كما أسلفنا الحديث عنه ، فلو تظلم مسلم إلى الكفار لرد حقه إليه فهذا لا يكون متحاكم إلى الطاغوت إنما مستجير بسلطان المشركين و المستجير بسلطان المشركين لا يكفر .
فمن أراد أن يثبت أن كلام الشيباني في التحاكم إلى الطاغوت فعليه أن يثبت أن مراد الشيباني بالسلطان هو سلطان الحجة والبرهان لا سلطان القوة والسلطان ، أو يثبت أنه هو القاضي الذي يفصل بين الناس في قضاياهم ، وقد بينا مقصود الشيباني بالسلطان و أنه هو سلطان القوة و القدرة لا سلطان الحجة فإنه لا يخالف مسلم أن طلب سلطان الحجة من الكفار من أعظم الكفر و مثل هذا لا يخفى على أطفال المسلمين فضلا عن علمائهم ، والأمر الأخر يجب عليه أن يثبت أن المتخاصم الذي يتكلم عنه الشيباني يقصد بتخاصمه طلب سلطان الحجة التي تفصل بين المتخاصمين .
No hay comentarios:
Publicar un comentario